السبت، 14 ديسمبر 2024 10:33 م

البريطانيون يختارون الخروج من الاتحاد الأوروبى بـ52%.. رئيس الوزراء يستقيل ووزير الخزانة يكثف جهوده للتطبيق.. والمجلس الأوروبي: ستبقى قوانينا نافذة بانجلترا.. فهل يعيد القرار تشكيل القارة؟

الكعكة الأوروبية بعد اقتطاع "لندن"

الكعكة الأوروبية بعد اقتطاع "لندن" الكعكة الأوروبية بعد اقتطاع "لندن"
السبت، 25 يونيو 2016 08:59 ص
كتب حازم حسين
قبل أكثر من 70 سنة من الآن خرجت أوروبا مكسورة ومبعثرة، بعد حرب عالمية كانت صاحبة قرار إشعالها، وكانت أكثر الخاسرين فيها، وعلى مدى عقود متتابعة اجتهدت القارة العجوز وجاهدت لتخرج من دوامة الهزيمة منتصرة ومرفوعة الرأس، دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية عبر خطة مارشال لإعادة الإعمار، ودعمت نفسها عبر التوجه لسياسات أكثر سلاما وانفتاحا على المستوى الاقتصادى، وبعد جهد سنوات طويلة ومعاناة ممتدة مع الملفات السياسية والعسكرية والاقتصادية، نجح الأسد الأوروبى فى الخروج من كبوته وصلب عوده، ليقف قوة سياسية واقتصادية لامعة وذات حظ من التأثير فى قيادة العالم، ولكن يبدو أن قطاعا من الأوروبيين يرى رأيا آخر، أو أن فريقا منهم يرى أنه تحمل حصة من الفاتورة أكثر مما تحملها الآخرون، المحصلة أن شمس التوافق الأوروبى ربما تكون أوشكت على الغروب، وأن القارة العريقة قد تكون الآن بصدد مرحلة اضمحلال جديدة، هذا ما يؤكده قرار البريطانيين الأخير لأشد المتفائلين من المتابعين للشأن الأوروبى، لا سيما وأن اختيار مواطنى الإمبراطورية العريقة التى لم تغب عنها الشمس قرونا للخروج من الوحدة الأوروبية بنسبة 52% من المصوتين فى الاستفتاء العام الذى جرى مؤخرا، ليس خبرا عاديا ولا هينا، ويحمل مؤشرات عديدة ومزعجة فيما يخص الشأن الأوروبى، ربما تفوق كثيرا انعكاساته المادية المباشرة، المتمثلة فى خروج واحدة من أهم دول أوروبا من الاتحاد، ما قد يفتح الباب لدول وشعوب أخرى لاتخاذ الموقف نفسه، خاصة أن كثيرين من شعوب أوروبا أبدوا تململهم خلال العقود الماضية جراء السياسات الاقتصادية المركزية للاتحاد، وتحمل الاقتصادات القوية فى القارة العجوز لتبعات وآثار الممارسات السياسية والاقتصادية الخاطئة لبعض دول القارة.

ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا

القرار المفاجئ للاستفتاء البريطانى، خاصة أن استطلاعات ومسوح الرأى طوال الأيام الماضية كانت تشير إلى تقدم نسبة الراغبين فى الاستمرار داخل الاتحاد، مثل زلزالا كبيرا للساحتين الأوروبية والبريطانية على حد سواء، إذ ظهر الارتباك داخل مؤسسات الجهتين، وبينما أعلن رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون تقدمه باستقالته عقب نتيجة الاستفتاء، أعلن وزير الخزانة البريطانى اجتهاده وتكثيف جهوده لوضع القرار فى حيز التطبيق سريعا ودون ارتباك فى سوق الصرف والنقد البريطانية، ومن جانبه أعلن رئيس المجلس الأوروبى أن قوانين الاتحاد ستظل سارية داخل أوروبا، ما ينم عن حجم الارتباك ويضفى على قرار البريطانيين قيمة أكبر من مجرد كونه نتيجة استفتاء شعبى لمواطنى دولة فى قرار يخص بلدهم، فالزلزال الناشئ عن القرار ربما يعيد تشكيل وجه أوروبا.

* الاتحاد الأوروبى.. شمس 6 عقود توشك على الغروب



كان النصف الأول من القرن العشرين مرحلة زمنية فاصلة فى تاريخ القارة الأوروبية، فرغم خروج قطاع واسع من العالم من أسر العصور الوسطى وصياغة منظومة عالمية حديثة، على خلفية حرب الثلاثين عاما، التى انتهت بمعاهدة "ويستفاليا" سنة 1648، وما وصل إليه النظام العالمى من إقرار حدود دولية واعتراف بالسيادة والاستقلال الوطنى للدول الناشئة بهياكلها الجديدة، ظلت القارة فى دائرة الصراعات الداخلية والمناوشات والتوسعات على حساب الجيران، وغذى هذه الحال طموح سياسى ونمو اقتصادى متسارع وموجات استعمارية متتابعة، ما قاد إلى أول حرب عالمية طاحنة تورطت فيها القارة بشكل واسع خلال الربع الأول من القرن الماضي.
عقب إغلاق ملف الحرب العالمية الأولى، لم تضمن القارة الأوروبية خروجا آمنا من تبعات الصراع، إذ ظلت متورطة فى العداء والمناوشات المتبادلة، ما شجع القوى المنتصرة فى الحرب، انجلترا وفرنسا وحلفاؤهما، على فرض شروطها على الجيران المهزومين، ألمانيا وإيطاليا وحلفائهما، وهو ما لم يضمن للقارة استقرار حقيقيا وطويل الأمد، إذ سرعان ما تورطت وتورط معها العالم فى حرب عالمية جديدة، أوسع مدى وأكثر دمارا، ولكنها كانت أكثر إفادة وتأثيرا على الصعيد الإيجابى، إذ يبدو أنها لفتت نظر القارة إلى أنه لا بديل عن التوافق والتكامل، فخرج الأسد العجوز إلى فضاء سياسى واستراتيجى جديد وأكثر نضجا، عماده احترام سيادة الجيران وتبادل المنفعة والتوظيف الأمثل للموارد المتاحة والإمكانات والمصالح المشتركة.

فرحة البريطانيون من الخروج من الاتحاد الأوروبى (1)

شهدت المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية مسارا طويلا من التنسيق بين القوى الأوروبية، عبر اتفاقات سياسية واقتصادية وعسكرية، من إعلان أمستردام فى 1952 إلى اتفاقات فى فيينا وباريس ولندن وجنيف وبيرن وغيرها من المدن والعواصم الأوروبية، وصولا إلى اتفاقية ماستريخت فى تسعينيات القرن الماضى، وهى مسيرة التنسيق والعمل المشترك التى أسفرت عن تعاون اقتصادى وسياسى، عبورا بسوق أوروبية مستركة واتفاقيات دفاع مشترك وسوق نقدية واحدة، وصولا إلى تكامل واسع ووحدة كاملة تمثلت فى الاتحاد الأوروبى ومؤسساته المتفرعة، البرلمان الأوروبى والمجلس الأوروبى وإدارة السياسة الخارجية وهيئة النقد الأوروبية، وما نشأ عن هذا التكامل من إجراءات منها اتفاقية شنجن لحرية التنقل بين دول القارة، وكانت درة التاج "اليورو" العملة الأوروبية الموحدة.


* فاتورة النهضة.. الطليعة يضيقون ذرعا بالحلفاء الضعاف



رغم ما تؤكده خطوات أوروبا الواثقة والمتزنة على مدى أكثر من 6 عقود بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية، من أن القارة العجوز نجحت فى الوصول إلى صيغة ناضجة وعميقة من التكامل والعمل المشترك، إلا أن حقيقة الأمر أن الطريق لم يكن مفروشا بالورود، فكلما قطعت القارة خطوة كبيرة على مسار الائتلاف والوحدة خلال العقود والسنوات الماضية، تعالت الأصوات المعارضة لزيادة التداخل المتطلع إلى حالة دمج كاملة لدول القارة، وكانت القوى المعارضة لمسار الوحدة، فى الدول الطليعية الكبيرة أو الدول الصغيرة والمتراجعة اقتصاديا، تتفق فى استهجان ونقد المخطط القارى الواسع، ولكن على أرضيات متنوعة ولأسباب مختلفة، فقوى المعارضة بالدول الصغيرة كانت ترى أن مسار الوحدة يخصم من سيادتها واستقلال قرارها الوطنى ويجعل منها مجرد تابع لقوى القارة الكبرى والمؤثرة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، بينما كانت معارضة القوى الكبرى ترى أن مسار الوحدة يخصم من أثر قوتها الذاتية ويوزع ثمار نهضتها ونجاحها على الشركاء عبر تحمل نتائج فشل القوى الصغيرة وسوء إدارتها، وهو ما تجلى بقوة فى أزمتى الديون اليونانية والإسبانية، إذ رأت قوى اليسار فى البلدين أن أجندة الدعم الأوروبى تحمل معها أجندة سياسية تخصم من سادتيهما واستقلالهما الوطنى، بينما رأت القوى المعارضة فى دول القارة الكبرى أن مساندة إسبانيا واليونان تحمل باقى دول القارة فاتورة فشل لا دخل لهم بها، وهنا بدأت حالة الشقاق والاختلاف تتجلى وتتضح.

فرحة البريطانيون من الخروج من الاتحاد الأوروبى (2)

حالة الشقاق التى أثارتها موجة التخبط والديون والتراجع الاقتصادى فى إسبانيا واليونان وغيرهما، كانت لها جذور أبعد وأعمق، بدأت مع الاتجاه إلى تحقيق وحدة نقدية مع الاتفاق على تأسيس هيئة النقد الأوروبى فى 1994، إذ رأت بعض الدول الصناعية الكبرى التى حافظت على مستوى محدد لسعر صرف عملتها طوال سنوات، ومنها فرنسا وألمانيا، أن العملة الموحدة وصعوبة السيطرة الكاملة على سعر صرفها أمر خاصم من قوتها الصناعية وقدراتها التنافسية، بينما رأت دول أخرى مما يقوم اقتصادها على التجارة والسياحة وتقديم الخدمات والأنشطة الشبيهة، على رأسها بريطانيا، أن العملة الموحدة قد تكون خطوة خاصمة من قوة اقتصادها، وسادت الأجواء الأوروبية حالة من الخلاف وتعارض المصالح، انتهت إلى إقرار العملة الموحدة "اليورو" فيما يبدو أنه انتصار لمسار الوحدة، ولكن ظل المسار الآخر حاضرا وكامنا كمون النار تحت الرماد، إذ احتفظت بريطانيا بالجنيه الاسترلينى كعملة رسمية مطروحة للتداول العالمى، واحتفظت بعض الدول الأخرى، كسويسرا والدنمارك وغيرهما، بعملاتها القديمة كوسيلة للتعامل الرسمى على المستويات البنكية وفى الأسواق المحلية.
طوال السنوات التالية لإقرار اليورو عملة موحدة للقارة الأوروبية، ظلت حالة الصراع بين المسارين - المؤيد للوحدة الكاملة والمعارض لها - حاضرة بقوة على الساحة السياسية والاقتصادية الأوروبية، تتجلى بقوة بين وقت وآخر فى الاختلافات التى تحدث داخل البرلمان الأوروبى وهيئة النقد، أو فى السياسات الداخلية من حكومات بعض الدول، تعذيها رؤية الدول الضعيفة اقتصاديا لسيطرة القوى الكبرى على واقع القارة ومستقبلها، فى مقابل رؤية الدول القوية لتبدد ثمار نهضتها الاقتصادية وتوزعها بين شركاء عديدون لا يعملون مثلهم ولا يقدمون ما يقدمونه، ويشعل كل هذا صراع تاريخى بين اليمين واليسار فى القارة العجوز، تتوزع رؤاه بين الفرص الاقتصادية والأممية التى توفرها الوحدة، وبين المركزية أو السلطوية وسوء التوزيع وتذويب الأفراد والحكومات، وتتوزع مع هذا التوازع الواصل إلى حدود التضارب والتناقض فى كثير من الأحايين رؤى وانحيازات اليمين واليسار وفق صورة أقرب للعبة الكراسى الموسيقية، فقد يؤيد اليسار سياسات وتوجهات يمينية فى صلبها لأنها تحما نزرا من الفلسفات اليسارية والعكس، وهو ما صنع صورة متداخلة إلى حد الارتباك، ليس فقط على الأصعدة التنفيذية والاقتصادية والسياسية فقط، وإنما على صعيد الأيديولوجيا والتوجهات والفلسفات الحاكمة لحركة المجتمعات الصغيرة داخل القارة، وحركة المجتمع الأوروبى الكبير، إلى الحد الذى يمكن القول معه إن الوحدة خلقت مجتمعا أوروبيا مشتتا ومتناقضا، أو بمعنى أصح خلقت أوروبا بلا أيديولوجيا أو فلسفة وظهير فكرى متماسك وحقيقى، ولعل هذا الخلل البنيوى فى معمار الوحدة كان أكثر ما يهددها من داخلها.


* خروج بريطانيا.. هل تكون بداية النهاية لوحدة القارة العجوز؟



الثابت رغم كل ما شهده المسار الأوروبى من تداخل واختلافات طوال العقود الماضية، أن شركاء القارة العجوز نجحوا فى إنجاز صيغة تكاملية مهمة وناضجة، رغم ما حملته داخلها من أدوات كفيلة بتفجيرها وإنهائها، وربما لم يرد على ذهن أى من اللاعبين الكبار فى الساحة الأوروبية، سواء فى مستوى الأفراد والسياسيين والمنظرين الفكريين أو فى مستوى الهيئات والمؤسسات والحكومات، أن يشهد هذا النجاح الكبير صفعة قاسية ومؤثرة كالتى قرر البريطانيون إنزالها على الوجه الأوروبى العجوز، الذى شهدت السنوات الأخيرة بدء استعادته لشبابه وحيويته، إذ تمثل نتيجة الاستفتاء الأخيرة ضربة قوية لمسار الوحدة الأوروبية، لا سيما وأن عاصمة الضباب لها ثقلها السياسى والاقتصادى والعسكرى فى فضاء العالم، إضافة إلى ما يمكن أن تمثله هذه الخطوة من تشجيع لطوابير الرافضين للوحدة الأوروبية، ليتداعى البنيان الضخم على طريق كرّ بكرة الخيط أو تتابع سقوط أوراق الدومينو، خاصة أن قطاعا من الألمانيين ذوى النزعة النازية والإيمان بالتفوق الآرى يرون الوحدة تذويبا للتفوق والعظمة الألمانية، كما أن فريقا غير قليلين من الفرنسيين يعلنون معارضتهم الدائمة لسياسات الوحدة الأوروبية، إضافة إلى ثورة اليمين الأوروبى ضد سياسات بعض دول القارة المتسامحة مع المهاجرين وما توفره لهم اتفاقية شينجن من حرية حركة داخل الفضاء الأوروبى الواسع، وبعيدا عن قوى اليمين الرافضة والثائرة فى كثير من الدول الأوروبية الصغيرة، فإن مجموع الضيق الفرنسى والألمانى، إلى جانب الضيق الذى ترجمه البريطانيون لقرار وواقع، كفيل بنسف الاتحاد الأوروبى بخسارة قواه الثلاثة الأكبر.

الخطر لا يهدد كيان الوحدة فى القارة العجوز فقط، ولكن يهدد الإمبراطورية اللندنية العجوز التى تنعم بالهدوء والاستقرار تحت التاج الملكى، طوال العقود، وربما القرون الماضية، إذ حمل الاستفتاء مع نتائجه الصادمة لراغبى استمرار بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبى، مؤشرات على صدمة متوقعة وقريبة لبريطانيا نفسها، إذ عبرت اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وهما من دول الكومنولث البريطانى، عن رغبتهما فى الاستمرار داخل الاتحاد، ما يعنى أننا ربما نكون على وشك استفتاء اسكتلندى أيرلندى للانفصال عن التاج البريطانى، انتصارا لرغبة البقاء داخل الوحدة الأوروبية.
ما يعقد الصورة ويلقى ظلالا سوداوية عليها، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى سيحدث خلخلة كبيرة فى بنية الاتحاد ومؤسساته، قياسا على ما كانت تلعبه من دور سياسى وإدارى، إضافة إلى حصتها السنوية فى موازنة الاتحاد، كما أن الأمر سيترك أثرا ضخما على العملة الأوروبية الموحدة، بخروج الاقتصاد الثانى فى القارة والخامس عالميًّا من منطقة اليورو، وكلها آثار قد تشجع قوى اليمين والرافضين للوحدة فى ألمانيا وفرنسا وغيرهما من دول القارة، على رفع أصواتهم مطالبين بمراجعة مواثيق الاتحاد واستراتيجياته، وهو ما قد يكون بداية تداعى البناية الأوروبية العملاقة، أو تسرب السكان من طوابقها شاهقة الارتفاع إلى أن تصبح ناطحة سحاب خربة، إن لم يقض عليها الإهمال وغياب الصيانة وتراجع العمل الدءوب على تقويتها، فلن تعدو كونها طللا لا قوة ولا روح فيه، فهل تنجح دول أوروبا فى الخروج من المأزق وترميم بنايتهم الضخمة بعد انسحاب واحد من أهم أسسها وأعمدتها؟ أم يكون تصويت 52% من البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبى الرصاصة الأولى فى صدر وحدة القارة العجوز؟ وهل نشهد تساقطا متتابعا لأوراق الدومينو الأوروبية؟ ومن يكون المتمرد الجديد على أوروبا الموحدة؟

الأكثر قراءة



print