كيف ستتعامل تركيا مع الوضع الأوروبى الجديد؟..تصويت البريطانيين على خروج بلدهم من الاتحاد الأوروبى لم يوجه لطمة لأوروبا والولايات المتحدة فقط، وإنما أصاب تركيا بصدمة شديدة، لأنها كانت تأمل أن تكون نتيجة الاستفتاء عكس ما انتهت إليه، حتى تواصل السير فى محاولاتها للانضمام للاتحاد الأوروبى، لكن جاءت نتيجة الاستفتاء البريطانى لتؤكد لأنقرة أن الحلم الأوروبى ابتعد عنها، خاصة أن التيار الترامبى، نسبة إلى دونالد ترامب، المرشح الجمهورى للانتخابات الرئاسية الأمريكية بات له صوت قوى ومسموع فى القارة العجوز.
التيار الترامبى فى أوروبا بالتأكيد ينظر لتركيا على أنها دولة مسلمة وتمثل خطرًا على الأوروبيين، خاصة بعد ثبوت تورط حكومة أنقرة فى علاقات مع تنظيم داعش الإرهابى، فضلاً عن الملاحظات الغربية الكثيرة على مستوى الديمقراطية والحرية الذى وصلت إليه أنقرة مؤخرًا، بعد الكشف عن الملاحقات الأمنية والقضائية للصحفيين والإعلاميين وحتى القضاة المعارضين لحكم أردوغان، وهو ما يمثل حاجزا آخر يبعد تركيا عن الحلم الأوروبى.
هناك من يرى أن الوضع ليس بهذه السوداوية، فالخميس الماضى فتح الاتحاد الأوروبى وتركيا فصلا جديدا من مفاوضاتهما لانضمام أنقرة إلى الاتحاد، يتعلق بقضايا الميزانية، وهو ما كان يشكل شرطا للاتفاق المثير للجدل حول الهجرة الذى وقع فى مارس بين تركيا والأوروبيين، ووفقاً لوزير الخارجية الهولندى بيرت كوندرز الذى ترأس الاجتماع، فإن هذه الخطوة جاءت بناء على الوعد الذى قطعه الاتحاد الأوروبى «بإحياء عملية انضمام» تركيا فى ظل التقارب الجارى منذ نهاية 2015 لمحاولة تطويق أزمة الهجرة، لكن عمليا لا يمكن اعتبار هذه الخطوة على أنها بداية لتصحيح المسار التركى الأوروبى، حتى إن أعلن الأتراك استيفاءهم كل المعايير المطلوبة لحصولهم على إعفاء من تأشيرة الدخول إلى أوروبا، لأن الاتحاد الأوروبى لايزال عند رأيه بأن تركيا لم تستجب بعد للشروط المتعلقة بالبيانات الشخصية والإرهاب.
القضية فى مجملها معقدة، بل شديدة التعقيد، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فتح شهية الكثيرين فى أوروبا للحديث مرة أخرى عن تحصين اتحادهم من كل المؤثرات الخارجية الهادفة إلى تدمير الاتحاد الأوروبى، وعلى رأس هذه المؤثرات أو المهددات الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وكلاهما يمثلان نقطة محورية فى الحوار التركى الأوروبى، خاصة أن أنقرة حاولت قبل عدة أشهر استغلال المخاوف الأوروبية من القضيتين لإجبار أوروبا على الخضوع لتركيا، باعتبارها المنفذ الأساسى الذى يتخذه الإرهابيون وراغبو الهجرة غير الشرعية للدخول إلى أوروبا، وحاولت تركيا تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، لكن مع مرور الأيام تكشفت اللعبة التركية أمام الأوروبيين، فتعقدت الأمور.
تعقد الأمور ربما يفسر التوجه التركى الأخير تجاه تطبيع العلاقات مرة أخرى مع إسرائيل دون حتى تحقيق المطالب التركية، فضلاً عن الخضوع التركى لروسيا من خلال تقديم اعتذار رسمى لموسكو رغم أن أردوغان كان يتباهى أمام الجميع بأنه لن يقدم أى اعتذار لروسيا عن حادث استهداف الطائرة العسكرية الروسية داخل الأجواء السورية، ولا يعرف ماذا يحمل الغد فى جعبة أردوغان.
بكل تأكيد سنشهد خلال الأيام المقبلة سياسة تركية مختلفة ومتناقضة مع الصورة التى حاول الأتراك تصديرها طيلة السنوات الأربعة أو الخمسة الماضية، فمن غير المستبعد أن تتجاوب أنقرة مع مطالب أو شروط القاهرة للمصالحة، بالإضافة إلى تغيير موقفها تجاه الأزمة السورية، لأن تركيا تحاول لملمة جراحها التى خلفها تصويت البريطانيين فى الاستفتاء الأخير للخروج من الاتحاد الأوروبى، فبعد أن فقدت الأمل فى دخول الحظيرة الأوروبية، تحاول الآن العودة مرة أخرى للأصدقاء القدامى.
الرهان التركى يزداد الآن على الشرق الأوسط، لكن بصورة مختلفة عن السياسة التى كانت متبعة من جانب أنقرة طيلة السنوات الماضية، فبعد تغيير حكومة أحمد داوود أوغلو فهناك رغبة تركية فى اتباع سياسة الاحتواء وليس الصدام.
لكن يبقى الملف الأهم أمام تركيا الآن الذى يبدو أنها بدأت فى دراسته لكنه سيأخذ وقتا، وهو ملف أرمينيا، فالضغوطات على أنقرة للاعتراف بما يسمى «الإبادة الأرمينية» تتزايد يوماً بعد الآخر، التى يبدو أنها ستحاول استغلال هذه الورقة لمقايضة الأوروبيين، أو بمعنى آخر عضوية الاتحاد الأوروبى مقابل الاعتراف بالإبادة.