مثلها مثل المياه الصافية، تسير فى جدولها دون أن تصنع ضجة، فقط وجودها كافٍ بأن يمنح قلبك فرحة مؤسسة على ذكريات هى صنعتها وشكلتها فى عقول كانت يومًا ما صغيرة، وتتلمس العلم والتسلية والمحبة من صوتها القادم عبر موجات الإذاعة المصرية.
ترقد الآن مريضة، بعد رحلة طويلة من صناعة البهجة فى مصر، وأخشى أن تذهب مثل غيرها من الكبار دون أن تحصل على حقها فى التكريم، أبلة فضيلة تصارع الموت، ونحن وجب علينا مصارعة أنفسنا لإخبارها بأنها علامة من علامات حياتنا الفارقة.
لا مكان آخر سوى الجنة يمكن أن يخرج منه صوت أبلة فضيلة الذى أعاد تشكيل وتربية وتعليم الأجيال السائرة فى شوارع مصر، منذ أكثر من 50 سنة، وربما كان هذا الصوت هو الذى صنع الفارق الحقيقى بين أجيال الماضى والأجيال التى تعيش الآن.
هذا الصوت هو الذى صنع تلك الفجوة بين الأجيال القديمة التى تربت على كلماته وقصصه، والأجيال الجديدة التى سقطت فى هوة تفاهة كلمات هيفاء وهبى ونانسى عجرم، وسذاجة المذيعات اللاتى ظهرن على الشاشة تحت شعار الحكى للأطفال، فبدلًا من الحكى قتلوا فيهم روح الخيال والإبداع، اللهم إلا القليل منهم الذى مازال يطرب ويفرح حينما يسمع هذا التتر الإذاعى، وهو ينادى قائلاً: «ياولاد ياولاد.. توت توت.. تعالوا تعالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة.. راح تحكيلنا حكاية جميلة.. تسلينا وتهنينا.. وتذيع لينا كمان أسامينا» هؤلاء فقط يمكنك أن تراهن عليهم كصناع لمجد جيل قادم، هؤلاء فقط يمكن أن تراهن على قدرتهم الإبداعية والأخلاقية بعد أن سقط بقية جيلهم فى بئر «البابا أبوح وبوس الواوا»، هؤلاء فقط هم الذين يمرحون فى بستان طفولتهم على أصوات حواديت أبلة فضيلة، بعد أن خسر بقية جيلهم سنوات البراءة بفعل الفضائيات وعنف الفيديو جيم.
«أبلة فضيلة» لم تكن أبدًا، ولن تكون مجرد مذيعة أطفال بل هى واحدة من أولئك السيدات التى أنعم الله عليهن بالصدر الواسع الذى يسع لأطفال بلد بأكمله، أم وجدة لم تكتفِ ببنتها وحفيديها، فقررت أن تتبنى أطفال مصر على مدار أكثر من 50 سنة، تحكى لهم المزيد من القصص التى تمتلئ بالأخلاق والمبادئ فى أزمان أصبح فيها أمر التربية عزيزًا على الآباء والأمهات الذين انشغلوا فى البحث عن الدرهم والدينار والجنيه، فى أزمان لم تعد الأم تؤمن فيه بتأثير حدوتة قبل النوم، رغم أن أجيالنا المبدعة نشأت وتربت عليها، فى أزمان أصبح المسيطر فيها المادة، وعصابات الفضائيات والفيديو كليب بقيت أبلة فضيلة بمفردها جنديًا مخلصًا فى الميدان تحارب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجيال يتصارع عليها عرى هيفاء ومياصة ماريا وعنف أفلام هوليود، وعصاية مدرس الابتدائى، وعقول الآباء المتحجرة، لم تشكُ الأبلة فضيلة أبدًا، فقط تحارب بحواديت تحمل من الأخلاق والعبر والمبادئ والدروس المفيدة أكثر مما تحمله كتب المدرسة كلها، رفضت الهجرة إلى كندا مع ابنتها الوحيدة، وتخلت عن كل شىء لكى تبقى هنا بجوار الأطفال والكبار تمارس هوايتها فى زرع الخير داخل قلوبهم والطموح داخل عقولهم، لم تهرب من أرض المعركة مثلما فعل الكثيرون، ولم تظهر لتتاجر أبدًا بما فعلته، ولم تمنح صوتها الساحر لتجار الإعلانات أو شاشات الفضائيات، بل أبقت عليه لمن يستحقه.. الأطفال.
دعك من كلامى الآن، فأنا مهما تكلمت عن أبلة فضيلة، فلن أنجح فى أن أفرحها مثلما فرحتنا وتفرحنا، ركز جيدًا مع نفسك واستدعى من ماضيك صوت أبلة فضيلة، وأنا على يقين أنك حينما تنجح فى استعادة صوتها من صندوق ذكرياتك، سترتاح ملامح وجهك وتبتسم.