أخيرا تحقق الحلم النووى المصرى الذى انطلق فى الخمسينيات، وتم إجهاضه بفعل فاعل وبخوف لا مبرر له من الإدارة السياسية المصرية بعد وفاة عبدالناصر. المشروع النووى المصرى بدأ مع نظيره الهندى وفى العام ذاته فى منتصف الخمسينيات تقريبا.
كان المشروعان المصرى والهندى بمثابة توأمين ترعاهما علاقة وثيقة ربطت بين جمال عبدالناصر ونهرو، أخفقت مصر ونجحت الهند، التى تمتلك حاليا حوالى 23 مفاعلا نوويا وتستطيع تصنيع محطة نووية بأكملها دون حاجة إلى خبرة الخارج، كما تملك ما يزيد على 30 قنبلة نووية. ضاعت فرص كثيرة على مصر لتنفيذ برنامجها النووى بسبب متغيرات سياسية واقتصادية تسببت فى توقف أو بطء تنفيذ البرنامج.
الآن جاءت الفرصة الحقيقية لإعادة إحياء المشروع السلمى النووى لتوفير الطاقة الكهربائية لتقليل الاعتماد على النفط والغاز فى إنتاج الطاقة، وتحول الحلم إلى واقع بعد توقيع مصر على اتفاقية إنشاء محطة نووية عالية المستوى تضم 4 مفاعلات مع روسيا، وأؤكد مرة أخرى مع روسيا، حتى لا نلتفت إلى «تخاريف» و«هرتلات» هنا أو تسكعات صحفية وكتابات ثملة.. مخمورة هناك، سارعت للإقرار بأن هناك توترا فى العلاقات المصرية الروسية بعد حادث الطائرة الروسية فى سيناء.
أستطيع الآن قول إن هدفا آخر من وراء إسقاط الطائرة، كان محاولة للعمل بأى شكل لمنع روسيا التوقيع على تنفيذ المحطة النووية فى مصر، وإجهاض التعاون الاستراتيجى الجديد بين القاهرة وموسكو، الذى تصاعد بقوة بعد ثورة 30 يوينو، ومحاولة عرقلة هذا التعاون والعلاقة التى قرر الجانبان أن تكون علاقة استراتيجية هذه المرة.
كانت هناك ضغوط قوية على مصر حتى لا توقع اتفاق المحطة النووية مع روسيا، وليست مجرد ضغوط فقط، بل وصل الأمر إلى حد التهديدات الصريحة، بأن يكون مصير البرنامج النووى المصرى مثل قرينه الإيرانى، وهذا ما يعكسه بوضوح تأكيد الرئيس عبدالفتاح السيسى بشدة فى بداية كلمته عقب حفل التوقيع على «سلمية البرنامج النووى المصرى»، والتزام مصر الكامل بكل المعاهدات والمواثيق الخاصة بحظر انتشار الأسلحة النووية وتعاون مصر مع المنظمة الدولية، الرئيس بالطبع ليس بحاجة لهذا التأكيد، لأن المشروع النووى هو مشروع سلمى تماما لتوليد الطاقة واستخدامه فى الأغراض السلمية فى مشروعات التنمية، إلا أن الضغوط والتهديدات والخوف من امتلاك مصر مشروع نووى، قد تضطر السياسة أحيانا للتوضيح والتأكيد، تحسباً لأى مواقف «غربية أمريكية» فيما بعد.
مصر الآن تمتلك الإرادة السياسية القوية لتنفيذ المشروع النووى وبدون تحمل تكلفة مالية ترهق ميزانياتها، فالقرض سيسدد على 35 عاما، ومن ناتج التشغيل، والاتفاق يضمن الصيانة الدائمة وتوفير الوقود النووى بانتظام، وتوفير أعلى ضمانات الأمن النووى الذى لا تملكها الشركات الغربية، والمحطة من الجيل الثالث، وهو أقصى ما توصل إليه العلم فى هذا المجال، وذلك باعتراف عالمى، ويمكن تلخيص ما حدث من توقيع اتفاقية المحطة النووية فى الضبعة بين مصر وروسيا هو انتصار للإرادة المصرية، وتأكيد جديد على قوة ومتانة العلاقات المصرية الروسية، التى حاول البعض أن يشكك فى استراتيجيتها وحيويتها وعدم تأثرها بحادث إرهابى معروفة نواياه ومحددة أهدافه.
هل كنا بحاجة لظروف خاصة جدا، مثل حادث الطائرة وقطع الرحلات، حتى نوافق على توقيع اتفاق المحطة النووية مع الجانب الروسى الذى يقدم عرضاً لا يمكن أن تقدمه أية جهة أخرى فى العالم، وحتى نؤكد على قوة العلاقة مع روسيا فى إطار تبادل المنفعة والمصلحة المشتركة بين الجانبين، وأن ما حدث تفهمته موسكو والقاهرة وتعاملا معه بأقصى درجة من العقل والحكمة، دون أن يتركا المجال لأية محاولات للوقيعة بينهما.