العاجز هو من انقطع عن الاتصال بالقوى القادر العزيز الغنى الرحيم
أعتقد أن أحد أهم أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم هو ذلك الذى يدلنا فيه على حقيقة العجز بل يبين لنا فيه من هو فعلا أعجز الناس.. «أعجَزُ النَّاسِ من عجزَ عَنِ الدُّعاءِ» السلسلة الصحيحة.. أعجز الناس إذاً ليس الكفيف أو القعيد أو صاحب العاهة أو الإعاقة! إنه من عجز عن الطلب والتضرع للخالق بنص كلام مبعوثه عليه السلام. إن هذه الجملة النبوية الجامعة هى، للأسف، عكس ما يظنه ويعتقده كثير من الناس، يظنون أن الدعاء هو سبيل العاجز أو حيلة من لا حيلة لهم أو أنه سلبية وضعف يلجأ إليها الكسالى الذين لا يبذلون وسعهم لبلوغ أمانيهم، وقد يكون لذلك التصور وجه لو افترضنا أن هؤلاء الذين يرفعون أيديهم متضرعين يكتفون بذلك ويستبدلون به العمل والاجتهاد أو أنهم يقصرون فى الأخذ بأسباب التغيير، ظانين أن ليس عليهم إلا الدعاء، وهذا الافتراض هو توهم معتاد للتعارض والمقابلة بين التوجيهات الشرعية وبين واقع الناس، وهو توهم كالعادة محله الأساسى رؤوس مصابة بالحول الفكرى لا تستطيع أن تستوعب الجمع والتفصيل بين الأشياء.. الدعاء ليس ضدا للعمل كما أن العمل لا يكتمل إلا بالدعاء، والعاجز حقا هو ذلك الذى عجز لسانه وقلبه عن التضرع لربه، تلك هى القاعدة المحكمة التى أراد منا رسول الله استيعابها.
العاجز هو من انقطع عن الاتصال بالقوى القادر العزيز الغنى الرحيم واعتمد فقط على أسباب قاصرة لا تكمل أبدا مهما عظمت، لو أن تلك الأسباب الدنيوية التى طمأنت المتخلى عن الدعاء تلخصت مثلا فى قوته فلا شك أنها ستجد من هو أقوى، ويستطيع أن يقهر قوته التى اعتمد عليها، كذلك لو كانت أسباب اعتماده تكمن فى ماله أو منصبه أو نسبه أو مهارته وحنكته؛ لابد أن لها منتهى وأن هناك من يملك ما هو أعظم منها ويستطيع هضم حقه، وإن تضافرت كل تلك الأسباب التى تصور أنها تحميه من العجز، أما أسباب السماء فتلك التى ليس كمثلها أسباب.
لو أدرك المرء ذلك لم يكن ليعجز أبدا عن الدعاء، ولاستشعر حقا قيمة تلك العبادة، ولفهم أن العاجز هو فعلا من عجز عنها.. لو أدرك أنه سيطرح حوائجه بين يديه.. بين يديه هو.. سيكلمه، سيطلب منه، سيرجوه..من؟! الله.. أنت أيها الداعى الآن ستكلم وستطلب وسترجو الله.. الله القادر فهل تعجزه حاجتك؟! الله الكريم الغنى فهل حاجتك أعظم من غناه وكرمه؟! الله القوى العزيز فلمن غيره تلجأ وبمن غيره تستعين وتركن؟! لكى تترسخ تلك القيم فى قلبك أكثر عليك دوما أن تتذكر.. تتذكر نعمه وآلاءه.. تتذكر أسماءه وصفاته وتدعوه بها.. وتتذكر أنه حيى يستحيى أن يرفع عبده إليه يدى الضراعة فيردهما «صفرا خائبتين».. وتتذكر أنه قريب.. وأنه يجيب، يجيب المضطر ويكشف السوء ويفرج الكروب.. وتتذكر نماذج الذين وثقوا به ولجأوا إليه ودعوه من قبلك وهم موقنون؛ ماذا صنع لهم؟! تتذكر من قال «رب إنى مغلوب فانتصِر» ومن قال «رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا».. ومن قال «رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير» ومن قال «إنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين».. ومن قال «وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا».. ومن قال «رب اكفنيهم بما شئت وكيف شئت».. ومن قالت «رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة».
تتذكر هؤلاء وغيرهم وتستشعر أنك بدعائك الخالص الصادق تسير فى ركابهم، وتتأمل كيف عاملهم ربهم وتلقى الغنى القوى القدير الكريم دعاءهم، حينئذ إن شاء الله ستدعوه وأنت موقن بالإجابة، وحينئذ فقط لن تكون من أعجز الناس، فأعجز الناس من عجز عن الدعاء.