بين الحين والآخر يخرج علينا بعض الناس منادين باعتبار القرآن الكريم مصدر الأحكام الوحيد، الأمر الذى يترتب عليه عدم اعتبار السنة النبوية مصدرًا من مصادر التشريع. وهذه الدعوى يستند أصحابها إلى شبهات سرعان ما تتهاوى عند إمعان طلاب العلم الشرعى فيها، فضلًا عن العلماء. ومما يسوقه هؤلاء المدعون تدليلًا على دعواهم تلك: أن القرآن الكريم أحاط بالأحكام، وهو المعصوم من التحريف والتبديل، بخلاف السنة التى دخلها الوضع، فضلًا عن أن الضعيف بين أحاديثها أكثر من الصحيح، ولذا لا يمكن الاعتماد عليها فى استنباط الأحكام التى يتعبد بها الناس ويقتدون بها فى معاملاتهم. ويستشهدون على دعواهم تلك بقول الله تعالى فى كتابه العزيز: «.. مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا»، زاعمين أن هذه الآية تتحدث عن القرآن الكريم، وهى تنطق بأنه أحاط بكل كبيرة وصغيرة وبيَّنها؛ فلا حاجة للسنة النبوية إذًا!.
وهذا لعَمرى زعم باطل وفهم سقيم؛ فالمراد بالآية، كما هو بيِّن، ليس القرآن الكريم الذى بأيدينا، كما أن سياق الآية واضح الدلالة على أن المقصود صحيفة الأعمال خاصة صحيفة عمل الكافر حين يتسلمها فى الآخرة ويجد كل أعماله مسطورة فيها فيتحسر على ما فيها من أعمال سيئة، ويتمنى أن لو كان سقط منها بعض أعماله. ومع أن كتاب الله عز وجل قد أحاط بكل شىء، إلا أن المراد بالإحاطة هنا هو الإحاطة بالأحكام على سبيل الإجمال وليس التفصيل، وهذا يعلمه كل متفقه فى كتاب الله عز وجل، فغالب الأحكام التى وردت فى كتاب الله - ومنها ما يتعلق بأركان الإسلام الخمسة على أهميتها - جاءت مجملة تقتصر على بيان الحكم مع بعض التفصيل اليسير غير الكافى للتطبيق على الوجه المطلوب شرعًا، فعلى سبيل المثال لا يمكن معرفة عدد الصلوات فى اليوم والليلة ولا عدد ركعات كل صلاة ولا السرية منها ولا الجهرية ولا ما يقرأ فى كل ركعة من ركعاتها دون الرجوع للسنة النبوية، وهكذا الحال فى بقية الأركان، حيث ترك التفصيل للمصدر الثانى من مصادر التشريع، وهو السنة المطهرة التى أمرنا ربنا بالأخذ بها كما نأخذ بالقرآن الكريم، يقول تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»، ويقول: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»، ويقول تعالى أيضًا: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».
والسنة النبوية تنقسم من حيث علاقتها بالأحكام إلى ثلاثة أنواع: سنة مؤكدة وهى التى تفيد ما أفاده كتاب الله عز وجل كفرضية أركان الإسلام مثلًا، وذلك لتتأكد هذه الأحكام فى أذهان المكلفين بأكثر من طريق حتى لا يقصروا فى الامتثال لها، وهناك سنة مبيِّنة وهى المفصلة للأحكام المجملة فى كتاب الله ككيفية أداء الصلاة المفروضة ومناسك الحج على سبيل المثال، حيث يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتمونى أصلى»، ويقول: «خذوا عنى مناسككم»، أى حجوا كما رأيتمونى أحج. أما النوع الثالث فهو السنة المنشئة، وهى التى تأتى بأحكام ليست فى كتاب الله لا مجملة ولا مفصلة كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها، حيث يقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «لا تجمعوا بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها، إنكم إن فعلتم قطعتم أرحامكم»، وهذا النوع من الأحكام يختلف العلماء حول كونه من اجتهاد النبى - صلى الله عليه وسلم - أو أنه وحى أوحى إليه بطريق آخر غير الذى يوحى به القرآن الكريم كالرؤى المنامية أو الإلهام أو غير ذلك من طرق الوحى، ويمكن أيضًا أن يكون عن طريق أمين الوحى جبريل عليه السلام، فهو لا يختص بإبلاغ القرآن فقط. ومع اختلاف الفقهاء فى كون أحكام السنة المنشئة من اجتهاد الرسول أو أنها وحى أوحى إليه، إلا أنهم يتفقون على حجيتها ولزومها للمكلفين كالأحكام الثابتة بالقرآن الكريم.
وأما الادعاء بأن القرآن الكريم هو فقط المحفوظ من التحريف والوضع لقول الله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، فهو مردود بأن السنة وإن كان قد دخلها ما ليس منها إلا أنه لم يختلط بها اختلاطًا يصعب تمييزه حتى يقال إنها غير موثوق بها، فعلماء المسلمين انبروا للدفاع عنها وتنقيتها بعدة طرق منها: جمع الصحيح وفصله عن الضعيف والموضوع، وجعلوا لكلٍّ كتبه كالكتب الصحاح الستة، وفى مقدمتها صحيحا البخارى ومسلم، كما وضعوا سلاسل للأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويتجلى الاهتمام بالسنة النبوية فيما ألفه السلف من علوم تخدم السنة المطهرة وتنقيها مما شابها كعلم مصطلح الحديث، وعلم الرجال، والجرح والتعديل، ولذا نقحت السنة وحفظت من التزييف، لأن الحفظ لا يعنى عدم وقوع التزييف والتحريف حتى للقرآن، ولكن يعنى أن التحريف إن وقع ينكشف ويصحح، بدليل وقوعه أكثر من مرة فى القرآن الكريم، ولكن سرعان ما كشف وبقى كتاب الله محفوظًا كما تعهد ربنا جل وعلا، وكذلك السنة محفوظة أيضًا بفضل جهود سلفنا.
ومن ثم، فإن التشكيك فى حجية السنة النبوية والمطالبة باعتبار القرآن الكريم المصدر الوحيد للتشريع هى دعوى ظاهرها الورع والاحتياط وباطنها مؤامرة خبيثة لهدم الدين رأسًا على عقب، وإن لم يتجرأ أصحابها على الإفصاح عنها، وذلك لأن الأحكام لا يمكن انتظامها اعتمادًا على كتاب الله وحده، حيث أجملت معظم أحكامه ولم تفصَّل، كما أن التسليم بعدم حجية السنة يفتح المجال للتشكيك فى كتاب الله الكريم؛ لأن الطريق الذى وصلنا به هو التواتر، وهو ذات الطريق الذى وصلتنا به السنة الصحيحة، ولذا فإن ما أجمع عليه ثقات الأمة سلفًا وخلفًا، وهو كون السنة المشرفة المصدر الثانى للتشريع، ينبغى عدم الالتفات إلى سواه مما يردده هؤلاء الأدعياء.