الإهمال والفساد يهاجمان تراث عروس البحر
فى عام 1988 أطلق الكاتب المبدع الراحل أسامة أنور عكاشة صرخة مبكرة جدا لحماية تراث الإسكندرية من جشع تجار وأثرياء الانفتاح وحيتان الفساد الذين انطلقوا كالوحوش الجائعة لالتهام المبانى التاريخية والتراثية فى عروس البحر المتوسط وتشويه طابعها المعمارى اليونانى والإيطالى.
كانت الصرخة تحذيرا مبكرا جدا فى المسلسل الرائع «الراية البيضا» للعملاقين سناء جميل وجميل راتب والمخرج الكبير محمد فاضل من هجوم الجهل، وسلطة المال، ونفوذ السلطة على أعز ما تملك مصر، وهو التاريخ والحضارة مجسدا فى الإسكندرية. وقتها لم يستمع أحد للتحذير ولم يعرف قيمة ما نبه إليه أسامة أنور عكاشة حتى استيقظنا على الكارثة التى تعيشها الإسكندرية منذ عدة سنوات وحتى الآن.
ما يحدث تحت سمع وبصر السادة المسؤولين فى الاسكندرية وخارجها جريمة كبرى لمحو تاريخ المدينة الحضارى والإنسانى على مر العصور وتشويه طابعها المعمارى البديع، ولا أحد يتحرك لإنقاذ المدينة قبل انقراض واندثار المخزون الثقافى والتاريخى.
قبل شهور كتبت هنا عن الجريمة الإنسانية التى تجرى على أرض المدينة ومعاول الهدم التى تدور فى أكبر مذبحة للفيلل والمبانى التراثية التى يرجع تاريخها إلى أكثر من مائة أو مائتين عام وإحلال مبان وعمارات شاهقة بشعة وقبيحة المنظر محل هذه الأماكن بأشكالها وطابعها المعمارى المميز بالطراز الإيطالى البديع، ولكن لا جهة تحركت للوقوف فى وجه مافيا المبانى ولم يتحرك المحافظ السابق أو الوزراء المعنيون للتصدى لهذه الجريمة التى راح ضحيتها فى خلال 5 سنوات مبان وفيلات ودور سينما يرجع تاريخها إلى مئات السنين، مثلما حدث مع سينما ريالتو وفيلا الكاتب الإنجليزى لورانس داريل صاحب «رباعيات الإسكندرية» الشهيرة فى منطقة محرم، وعشرات القصور والمسارح والمقاهى التاريخية والتراثية، ولم يستطع مسؤول واحد مواجهة هذه المافيا. المؤسف فى الأمر أن الاحتجاج على مذبحة بل مجزرة التراث والتاريخ فى الإسكندرية جاء من خارج مصر، من باريس التى أبدت استنكارها لما يحدث ضد فيلا «جوستاف أجيون» والتراث الثقافى فى مدينة الإسكندر الأكبر.
والآن يأتى الدور على قصر أمبرون بمحرم بك، الذى يعد من أهم القصور التاريخية والمهملة فى العصر الحديث بالإسكندرية، وهو ملك المقاول الإيطالى «أمبرون» وهو أحد أفراد الجالية اليهودية التى كانت تعيش فى مصر، وعاش فيه مع زوجته الفنانة التشكيلية، ومبنى على الطراز الإيطالى، وأقام فيه لسنوات الكاتب البريطانى لورانس داريل الذى رشح لجائزة نوبل للأدب، وكتب فيه أشهر أعماله الأدبية، كما أقام فيه ملك إيطاليا فيكتور عمانويل الثالث والفنانان التشكيليان سعد الخاد وعفت ناجى، ومؤخرا تحول القصر إلى مزرعة للحيوانات استغلها أحد تجار المواشى.
وقصر عزيزة فهمى الذى يقع فى أرقى مناطق الإسكندرية بمنطقة جليم المطل على طريق الكورنيش مباشرة، وهو ملك الأميرة عزيزة باشا فهمى نجلة على باشا فهمى، وهو أكبر مهندسى القصى الملكى، ويوجد نزاع قضائى بين الورثة وشركة ايجوث التى صدر حكم لها مؤخرا ببناء فندق سياحى فاخر وهدم القصر الملكى.
وقصر شيكوريل بمنطقة رشدى المطل على شارع أبو قير مباشرة، ويملكه حاليا الشركة العربية للملاحة البحرية، بعدما كان ملكاً للدولة بعد قوانين التأميم، وأصبح تابعا لرئاسة الجمهورية حتى فترة السبعينيات وقامت بمحاولات عديدة لهدم المبنى والتلاعب بالأعمدة الخرسانية، وتم إلقاء القبض على المقاول الذى قام بالتلاعب وهدم المبنى، وفيلا سباهى بمنطقة ستانلى بطريق الكورنيش مباشرة، وحاولت بعض الشركات العقارية هدم الفيلا وبناء عليها أبراج سكنى حديثة.
هى دعوة عاجلة وصرخة جديدة لإنقاذ الإسكندرية من بين أنياب أعداء التراث الإنسانى فمن يستجيب؟