يعيدنا بؤس أحوال الدول العربية الحالى إلى ذكريات الماضى الذى كان فيه قادة عظام، يتعاملون على أن وجع كل عربى هو وجع واحد، والمصيبة التى تنزل بأى قطر يتضرر باقى الأقطار منها، ومن هؤلاء القادة العظام الزعيم الجزائرى هوارى بومدين الذى حلت ذكرى رحيله أمس (27 ديسمبر عام 1977)، كان بومدين قائدا من طراز فريد ويظل موقفه مع مصر بعد نكسة 5 يونيو 1967 نموذجا عظيما تجب روايته من جيل إلى آخر، حتى نعرف هؤلاء الذين وقفوا إلى جانب مصر فى محنتها دون ضجيج.
فى أعقاب نكسة 5 يونيو 1967 مباشرة، ذهب «بومدين» إلى موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتى بناء على اقتراح من جمال عبدالناصر، وقراءة وقائع هذه الزيارة تؤكد كم هى صفحة مضيئة فى تاريخنا العربى، فوفقًا، لما يذكره محمد حسنين هيكل فى كتابه «الانفجار»، وبناء على الوثائق المحفوظة فى قصر عابدين، كانت الجلسة الأولى فى «الكرملين» بعد ظهر يوم 12 يونيو، وبدأ بومدين حديثه بأن قال للقادة السوفيت إنه يأسف لأنه طلب من سفير الجزائر فى موسكو إبلاغ السلطات السوفيتية أنه لا يريد حفلات تكريم على غداء أو عشاء»، وكان بومدين قد شعر بالاستفزاز عندما أطلعه سفير الجزائر على برنامج الزيارة الذى يبدأ بحفل عشاء لتكريمه، فطلب من السفير إبلاغ القيادة السوفيتية اعتذاره عن قبول أى مناسبات اجتماعية.
أبلغ الرئيس الجزائرى «هوارى بومدين» القيادة السوفيتية أنه لا يريد حفلات تكريم على غداء، وقال على طاولة الاجتماع بضيق: «أنا لم أجئ كى أتناول الغداء أو العشاء، وإنما لأفهم»، فرد عليه سكرتير الحزب الشيوعى «بريجنيف»: «أنا وزملائى نفضل أن نسمع منك أولا». انطلق بومدين متسائلا: «ما حدود الوفاق بينكم وبين الأمريكيين؟ إننا نراه وفاقا من جانب واحد، أنتم تتصرفون بأقصى درجات الضعف وهم يتصرفون بأقصى درجات القوة»، فقاطعه رئيس الوزراء السوفيتى كوسيجين: «نحن لا نتصرف بضعف»، فرد بومدين: «بل تتصرفون بمنتهى الضعف، وإذا كنتم تتصورون أننى جئت إلى هنا لكى أجاملكم فإنى لن أفعل ذلك، والحقيقة أننا لسنا وحدنا الذين هزمنا، وإنما أنتم هزمتم فى نفس الوقت معنا بل قبلنا، وإذا كنتم لا ترون أن ميزان القوى العالمية قد تحول لصالح الناحية الأخرى فهذه مصيبة، وإذا كنتم ترون ذلك ولا تفعلون شيئا فهذه مصيبة أكبر، لقد تركتم ما حدث يحدث دون رد فعل منكم إلا بالبيانات والمقالات».
رد «كوسيجين»: «هل تريدنا أن ندخل فى حرب نووية؟ وهل تقدرون ما هو معنى الحرب النووية واحتمالاتها؟ فقال بومدين: «هذا كلام ينبغى أن تفكروا فيه قبل الأحداث وليس بأثر رجعى بعدها»، وتدخل «بريجنيف» مناديا «بومدين» بـ«الرفيق»: «إن الاتحاد السوفيتى لم يكتف بالبيانات والمقالات، وإنما قدم لأصدقائه العرب ما يحتاجون إليه من السلاح، ولكنهم لم يحسنوا استعماله».
فقد «بومدين» أعصابه قائلا: «ليكن، نحن لا نحسن غير أن نسوق الجمال ولا نعرف كيف نقود الطائرات الحديثة، فتعالوا أنتم وأرونا ما تستطيعون عمله، معلوماتى تؤكد أن السلاح الإسرائيلى كان متفوقا»، فرد كوسيجين: «حاولنا أن نستجيب لطلباتكم وقدمناها بأسعار مريحة، بل إنكم لم تسددوا حتى ربع تكاليف ما حصلتم عليه».
استبد الغضب بـ«بومدين» فقال إنه كان يتخوف من مثل هذه الملاحظة، واستعد لها بأن طلب من وزير المالية الجزائرى بتحويل مائة مليون دولار لصالح وزارة الدفاع السوفيتية، ثم أخرج «الصك» بالمبلغ، وكان يحتفظ به فى ملف أمامه، فاحمر وجه كوسيجين قائلا: «لست تاجر سلاح حتى تعاملنى بالشيكات»، فرد بومدين: «أنا لم أبدأ، وإنما أنت الذى تحدثت عن نصف وربع الثمن».
تكهرب جو الاجتماع، فاقترح بريجنيف رفع الجلسة لاستراحة قصيرة، وانتهت الزيارة بقرار أن يقوم الرئيس السوفيتى «بادجورنى» بزيارة مصر. هكذا كان «بومدين» العظيم.. رحمه الله.