لو كنت مكان الرئيس السيسى لأصدرت قرارا بتشكيل لجنة عليا عاجلة برئاسة رئيس الوزراء لإعادة إحياء الشركات الحكومية أو «شركات الغلابة» التى كانت توفر الغذاء والملابس والسلع الاستهلاكية لأبناء الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا فى مصر فى الخمسينيات والستينيات وحتى منتصف الثمانينيات وقبل هجوم عصر النهب والسرقة للمال العام والتغول على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشريحة السكانية الأكبر الذى اتخذ شعارا خادعا باسم «الخصخصة».
هذه الشركات التى تأسس بعضها على يد رائد الاقتصاد المصرى طلعت حرب فى الثلاثينيات مثل «شركة بيع المصنوعات والمتاجر الشعبية» كانت تشكل جدار الحماية الاجتماعية والاقتصادية لشريحة كبيرة من الشعب المصرى بأسعار تناسب الدخول فى ذلك الوقت، وغالبية أبناء الطبقة الوسطى والأقل دخلاً يتذكرون سلاسل محلات شركة بيع المصنوعات المصرية وعمر أفندى والمتاجر الشعبية وقها وأدفينا، وكيف وفرت هذه الشركات الغذاء المناسب والملائم للفقراء من الصناعة والإنتاج المحلى، وكيف قدمت الملابس المحلية من مصانع المحلة الكبرى وكفر الدوار والإسكندرية وطنطا وشبين الكوم وساهمت فى إنعاش الصناعة المحلية ودوران عجلة الإنتاج التى لم تتوقف إلا بالخصخصة وخراب المصانع والشركات.
الرئيس السيسى فى اجتماعاته الخاصة بتوفير السلع الغذائية مع وزير التموين أو التجار يركز على أن تكون العملية ممتدة بخطة استراتيجية، وأظن أن ذلك لن يحدث إلا إذا أعادت الحكومة الحياة مرة أخرى لشركاتها الغذائية والاستهلاكية، فالحكومة تمتلك 22 شركة تنتج المنتجات الغذائية التابعة الآن للشركة القابضة للصناعات الغذائية بفروعها المنتشرة فى كل محافظات مصر مما يجعلها قادرة على توفير الاحتياجات الأساسية بأسعار تنافسية للسيطرة على انفلات الأسعار ومواجهة الغلاء واستغلال وجشع التجار.
وأتذكر أن «بيع المصنوعات، وعمر أفندى، والمتاجر الشعبية، وباتا» كانت فى منتصف السبعينيات الملاذ الآمن لوالدى- رحمه الله- لشراء كسوة العيد والمدارس- حذاء وقميص وبنطلون أو فستان أو مريلة- لإخوتى الصغار فى ذلك الوقت بما لا يتجاوز 10 جنيهات أو 12 جنيها على أكثر تقدير، وسط فرحة الصغار وذهاب النوم من أعينهم حتى صباح العيد أو أول يوم دراسى، وفى المجمعات الاستهلاكية كانت تتوافر السلع الغذائية والخضروات و«السمك الروسى الشهير» واللحوم بأسعار رخيصة.
هذه هى التجربة التى ندعو الرئيس والحكومة إلى إعادة إنتاجها من جديد وبلغة عصرية وبمرونة تتماشى مع متطلبات السوق المحلية كواحدة من مظاهر تحقيق العدالة الاجتماعية لأكثر من 50% من الشعب المصرى ومحاولة لإحياء الطبقة الوسطى فى المجتمع المصرى التى حافظت ولفترات طويلة على توازنه الاجتماعى والثقافى والاقتصادى وحتى السياسى، وكانت القوة الأساسية المحركة لقوى الإنتاج فى مصر. فأصول هذه الشركات مازالت موجودة ومنتشرة فى كل محافظات مصر، ويجب استعادتها وتسوية أوضاعها ثم دراسة كيفية إحيائها مرة أخرى لتعلب الدور الاجتماعى الحيوى وتسهم بشكل فعال فى دوران عجلة الإنتاج للمصانع الحكومية التى تعانى الإهمال والتى كانت منتجاتها فى الملابس والغذاء والأغذية تتصدر أرفف وفاترينات هذه الشركات.
ومن العيب أن تتدهور أحوال شركة بيع المصنوعات وتتراجع بفعل فاعل أمام حيتان الاستيراد وهى التى أسسها طلعت حرب فى مواجهة السلع الأجنبية فى زمن الاحتلال الإنجليزى، وعار أن تتم تصفية شركات أدفينا وهى التى أسسها جمال عبدالناصر فى الستينيات بعد تحويل ماكيناتها إلى خردة وتشريد عمالها، وأيضا شركة قها.
فكرة إحياء شركات الملابس والأغذية الحكومية قابلة للتحقيق بعد دراستها بشكل عاجل وتشكيل لجنة عليا برئاسة رئيس الوزراء لتفعيلها حتى يتيقن لدى الناس أن الحكومة تسير فى طريق العدالة الاجتماعية.