قبل 40 عاما من الآن كان هناك رجل فى بنجلاديش يفكر فى أحوال بلاده وفى الأمية والفقر التى تفتك بالفقراء من شعبه، وكيف يمكن أن ينفع وطنه وأبناءه من المحتاجين والفقراء خاصة من النساء بأفكاره وخبراته التى تعلمها فى الخارج وأراد أن يطبقها لخدمة بلده، لم يسعَ إلى السلطة أو يستسلم لشهوة الكلام والخطابة المعارضة لنظام الحكم وقتها ويداعب مشاعر فئة مراهقة تغويها الشعارات بدلا من النضال والعمل والمساهمة بأفكار وأفعال حقيقية للنهوض بالوطن.
من حسن حظ بنجلاديش أن الدكتور محمد يونس الحاصل على نوبل عام 2006 بسبب فكرته العملاقة التى تحولت إلى واقع وهى تأسيس بنك «جرامين» أو «بنك الفقراء» لمساعدة الفقراء من النساء فى بلاده لم تستهويه السياسة ولا امتطاء خيول الوهم والإمساك بسيوف الخشب ومحاربة طواحين الهواء لتحقيق مصالح شخصية ضيقة من أجل البقاء فى دائرة الضوء، فهو رجل اقتصاد ولد عام 1940 فى مدينة شيتاتونج التى كانت تعتبر فى ذلك الوقت مركزًا تجاريا لمنطقة البنغال الشرقى فى شمال شرق الهند، حصل على الدكتوراه فى جامعة فاندربيلت بولاية تينيسى الأمريكية وفى فترة وجوده بالبعثة نشبت حرب تحرير بنجلاديش (باكستان الشرقية سابقا) واستقلالها عن باكستان (أو باكستان الغربية فى ذلك الوقت)، وقد أخذ يونس من البداية موقف المساند لبلاده بنغلاديش فى الغربة، وكان ضمن الحركة الطلابية البنغالية المؤيدة للاستقلال، التى كان لها دور بارز فى تحقيق ذلك فى النهاية.
وبعد مشاركته فى تلك الحركة عاد إلى بنجلاديش المستقلة حديثا فى عام 1972 ليصبح رئيسًا لقسم الاقتصاد فى جامعة شيتاجونج وكان أهالى بنجلاديش يعانون ظروفًا معيشية صعبة، وجاء عام 1974 لتتفاقم معاناة الناس بحدوث مجاعة قُتل فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون.
وبسبب تفاقم أوضاع الفقراء فى بلاده، راح يحاول إقناع البنك المركزى أو البنوك التجارية بوضع نظام لإقراض الفقراء بدون ضمانات، وهو ما دعا رجال البنوك للسخرية منه ومن أفكاره، زاعمين أن الفقراء ليسوا أهلا للإقراض.
يونس لم يستسهل فكرة المعارضة واللعن فى الظلام وعلى شاشات الفضائيات وصمم على إيقاد الشمعة وعلى التفرغ للمساهمة بعلمه وأفكاره للقضاء على الفقر ومساعدة الفقراء الذى رأى أنهم جديرون بالاقتراض، واستطاع بعد ذلك إنشاء بنك جرامين فى عام 1979 فى بنجلاديش لإقراض الفقراء بنظام القروض متناهية الصغر التى تساعدهم على القيام بأعمال بسيطة تدر عليهم دخلا معقولا.
استطاع يونس بهذه الفكرة البسيطة التى تحولت مع الأيام والسنين إلى واقع عملاق يقرض أكثر من 8 ملايين ونصف مليون شخص غالبيتهم من النساء، وتعتمد فكرة البنك على تقديم قروض صغيرة لتمويل مشروعات منزلية تقوم عليها غالبا نساء. وقدم البنك منذ تأسيسه أوائل الثمانينيات نحو 11 مليون قرض، ووصلت نسبة تسديد القروض إلى 99%، وتراجعت معدلات الفقر فى بنجلاديش من 90% الى 25% .
المفاجأة أن الدكتور محمد يونس خلال زيارته الأخيرة لمصر فى فبراير الماضى كشف أنه عرض تأسيس بنك الفقراء فى مصر من ربع قرن تقريبا بدعم من الأمير طلال بن عبد العزيز لكن الفساد والبيروقراطية وقفا حائلا دون تنفيذ الفكرة.
لدينا الآن فرصة حقيقية لتطبيق فكرة وتجربة الدكتور محمد يونس فى مصر بشكل يتناسب مع طبيعة المجتمع المصرى من خلال الفكرة التى أطلقها الرئيس السيسى فى الأوبرا بتكليف البنك المركزى بتوفير 200 مليار جنيه على 4 سنوات لدعم المشروعات المتوسطة والصغيرة لخدمة أكثر من 350 ألف مشروع، وهى بداية حقيقية لإنشاء ما يمكن إطلاق عليه تسمية «بنك المشروعات الصغيرة و المتوسطة» لإقراض الشباب والنساء وبنسبة فوائد منخفضة مثلما فعل الدكتور محمد يونس فى بنك الفقراء وهى مناسبة للاستفادة من تجربة يونس فى بنجلاديش للقضاء على الفقر فى مصر والحد من نسب البطالة وإتاحة فرص التشغيل والمساهمة الحقيقية فى عملية التنمية الاقتصادية.
نحتاج رجال مثل محمد يونس لا يتربصون ولا يتوارون خلف جدران الفيس بوك والتويتر ولا يشيعون حالة من الإحباط واليأس بل يفكرون ويجتهدون من أجل إنقاذ أوطانهم.