فى بداية الثمانينيات كان اثنان من شباب قرية ميت الديبة بريف الدلتا، يشار إليهما بالاجتهاد والسعى وراء الرزق، لا يمتلكان فى الدنيا غير ما تعلماه ولا يريدان غير تربية أبنائهم تربية طيبة، هما الاستاذان بالتربية والتعليم راشد راجح ومختار عوض، كلاهما اتخذ قرار السفر بعد ضيق الحال فى بلاد المحروسة، فسافر راشد راجح إلى ليبيا، بينما اتخذ مختار عوض طريقة إلى الإمارات، وكانت كلتا السفيريتان باب خير، عادا من السفر بعد سنوات طويلة ليس كمثل ما قبل السفر، لا فى التفكير ولا فى نظرتهما للحياة ولا حتى بروح الشباب المتهور، عادا أكثر نضجا وإدراكا للحياة بمفهومها المعقد، ومن هنا كانت قراراتهما، الأول توقف عن السفر وتمسك بأن يعيش فى القرية بالمرتب المحدود للتربية والتعليم، بينما الثانى انخذ قرارا بترك القرية، منطلقا إلى بقعة جديدة من مصر فى بداية التسعينيات وقتها، وهى مدينة مطروح، اشترى قطعة أرض من باب الخير الجديد والرزق الواسع .
فى مطروح بدأت رحلة مختار عوض، كان بين الحين والآخر يزور القرية وصديق كفاحه راشد راجح، غير أن همه الأكبر، كيف الطريق إلى النجاح فى بلد جديدة عليه؟، وما كان منه غير التركيز على عامل واحد فقط هو أن يشتغل على أبنائه يعلمهم أفضل تعليم، ليدخلوا أفضل جامعة ويحملوا اسمه فى المستقبل، من بين أبنائه كان "طاهر"، لا أعرف هل هو الابن الأكبر أم الأوسط، غير أنه كان الأكثر انتشارا فى القرية، كانوا دائما ينادون مختار عوض بـ" أبو طاهر".
نجح الابن طاهر فى أن يجتاز المراحل التعليمية بتفوق، حتى وصل إلى كلية الطب، وفيها لم يدرس فقط علم الجراحة وطريقة قياس ضغط الدم، بقدر ما درس أيضا كيف تحب البلد وتخاف وتغار عليها مثل باقى شباب جيله، جيل الثمانينيات، مع اكتمال طاهر لكلية الطب، كان عقله وفكره أيضا أقرب إلى النضج والتشكل، تلون عقل طاهر بلون سياسى مبنى على قاعدة الانتقاد، تتفق أو تختلف معه، لكنه تعبير عن رأى، والرأى لم يكن أبدا جريمة.
اهتمام طاهر بعمله كطبيب جاء متوازيا مع اهتمامه بالعمل السياسى، فاتخذ طريق مشروع وهو نقابة الأطباء، ترشح فى انتخاباتها الأخيرة وأصبح عضوا فى مجلس نقابة الأطباء بالإسكندرية، وعضوا فى لجنة الحريات، ونشاط طاهر فى الآونة الأخيرة تزايد، وبدا واضحا تميزه فى العمل النقابى، إلى هنا والأمور كلها بخير، ولكن قبل ٥ أيام ألقت الأجهزة الأمنية القبض على طاهر .
نقطة ومن أول السطر، قناعتى أن الأجهزة الأمنية لها الحق فى القبض على أى مواطن طالما لديها دلائل وبراهين على ارتكابه جريمة فى حق الدولة، ولكن ما هى جريمة طاهر؟، بحسب الممثل القانونى لنقابة الأطباء فإن جهات التحقيق وجهت للطبيب طاهر تهمة ارتكاب أعمال عنف فى يناير ٢٠١١، وهل هذا معقول .
مقالى ليس دفاعا عن الطبيب طاهر مختار عوض فقط، ولكن دفاعا عن المنطق، لماذا يقبض الأمن على عدد من الشباب قبل يناير؟، لتظهر خوفها من يناير بدلا من أن تعتبره يوم حقيقى للاحتفال بذكرى الثورة، ولماذا أيضا يقبض الأمن على شباب النقابات؟، فيخلق دون أن يشعر جيلا جديدا بينه وبين الأمن "تار بايت" .
شقاوة "طاهر" ورأيه السياسى، قد نختلف عليه أنا وأنت.. ولكن لا نختلف على أن والد طاهر "مختار عوض" وصديق حياته راشد راجح، نجحا فيما كانا يسعيان إليه قبل 30 عاما.. مختار عوض على قيد الحياة.. بينما راشد راجح فارقنا قبل عام.. ألف رحمة ونور عليه.