سيرة مهنية لمثقف من طراز رفيع أنا من المنحازين لأى تقدير يتم لمثقفين كبار يسهمون فى تبصير الآخرين بهم وبسيرتهم العلمية والفكرية، وقد يكون هذا تعويضا إلى حد ما عن عدم ترك هؤلاء المثقفين لمذكراتهم، ولو كان بوسعى التصدى لجمع شهادات من أصدقاء الذين عاصروا قامات كبيرة لم تترك مذكراتها لفعلت ودونتها كبديل، ونوع من رد الدين لهؤلاء، وعندما تمر أمامى أسماء عظيمة، أقول: «آه لو فعلتها»، لو فعلتها مع أحمد بهاء الدين، كامل زهيرى، محمد عودة، يوسف إدريس، محمود السعدنى، محمود عوض، أسامة أنور عكاشة، كمال الطويل، بليغ حمدى، وعمار الشريعى وآخرين، فأنا ممن يعشقون الحكى عن مراحل التكوين للمبدعين، ثم العطاء الناتج عنه بكل ما يحمل من تفاصيل فى المعاناة.
أقول ذلك بمناسبة كتاب صدر مؤخرا بعنوان «محمد الخولى- صوت العروبة»، والصادر ضمن سلسلة «الصالون الثقافى العربى»، ويضم وقائع الندوة الفكرية التى عقدت فى رحاب الصالون، وتناولت الأعمال الفكرية لـ«الخولى» كاتبا ومفكرا ومترجما فى المحافل الدولية، ومن منظور التركيز على كتابه «الشرق الأوسط الكبير»، وهو كتاب حسب رأى الناقد الدكتور صلاح فضل: «بالغ الأهمية وهو عن تقرير قدمه مجموعة من الخبراء فيما يسمى «وثيقة إسطنبول»، والوثيقة ترجمها «الخولى»، والترجمة أكثر من رائعة، وكأن اللغة المكتوبة بها هى لغة كتابة وليست لغة ترجمة، أما باقى الكتاب فهو تحليل بالغ العمق لهذه الوثيقة». فى السيرة المهنية لـ«الخولى»، أنه بدأ بالعمل مذيعا فى إذاعة «صوت العرب»، وكان ذلك فى ذروة المد القومى العربى عند منتصف الستينيات من القرن العشرين، وكانت الإذاعة بشكل عام وقتئذ هى وسيلة الإعلام السحرية فى التأثير على الجماهير، وكانت «صوت العرب» كإذاعة نموذجا فى التطبيق الحرفى لهذا التأثير، فهى التى تبنت حركات التحرر العربية.
وبمقتضى ذلك كان كل مذيع فيها منذ تأسيسها عام 1953 بواسطة فتحى الديب، وقيادة أحمد سعيد، هو بمثابة مناضل وحامل رسالة وطنية وقومية يقدمها بكفاءة مهنية، وفى هذا الأمر هناك مئات بل آلاف من الحكايات التى يحملها كل هؤلاء الذين عملوا فى هذه الإذاعة طوال مرحلة التوهج القومى فى الستينيات، وشخصيا سمعت بعضها من أصحابها، لكنها وبكل أسف لم تخضع للتدوين الجامع لأطرافها، ومن جانبى حاولت وسعيت، مع المؤسس فتحى الديب رحمه الله، واجتهدت فى مذكرات أحمد سعيد، متعه الله بالصحة والعافية.
بعد مرحلة العمل فى «صوت العرب» شهدت المسيرة الفكرية والمهنية لـ«الخولى» تحولات ما بين العمل خبيرا للشؤون العربية فى مكتب جمال عبدالناصر برئاسة الجمهورية تحت رئاسة فتحى الديب، إلى العمل بالصحافة المطبوعة فى مصر وبيروت وأبوظبى ودبى، ومنها العمل مترجما ثم كبيرا للمترجمين بمنظمة الأمم المتحدة فى بيروت وبغداد وأديس أبابا، ونيويورك.
هذه السيرة المهنية فى عناوينها العامة يمكنك أن تعرفها بمجرد الضغط على مؤشر البحث جوجل، وسيزيدك بسلسلة مؤلفاته ومنها «القرن الحادى والعشرون: الوعد والوعيد»، و«قضايا وأفكار معاصرة»، و«فضائيات العربية فى مواجهة الإرهاب» و«صراع الصورة بين العرب والغرب» و«الشرق الأوسط الكبير»، و«دليل القارئ الذكى إلى عيون التراث العربى» و«كتب فى حياتهم»، أما فى الترجمات فله «القاهرة فى الحرب العالمية الثانية» و«الإسلام والمسلمون فى أمريكا» و«الشرق والغرب»، و«أصوات العصر» و«الحملة الأمريكية».
هذه المعلومات العامة سنجدها معروفة، أما تفاصيلها التى أسسته كمبدع وقالها مفكرون وسياسيون ومبدعون عنه فسنتناولها غدا من واقع هذا الكتاب.