استقالة «زهيرى» المبكرة كشفت حالة الخلاف
مع حالة الترقب من كل الأطراف السياسية مصريا وعربيا لما سيكون عليه الحزب الناصرى بعد خروجه إلى الحياة السياسية بحكم قضائى عام 1992 التى تحدثت عنها فى المقالين الأخيرين، بدأ الحزب أول خطواته فى عملية البناء الداخلى له، التى تمثلت فى إجراء انتخابات داخلية فى كل المحافظات، ومن يراجع الحالة العامة لهذه الانتخابات سيجد زخما كبيرا، فهناك لجان انتخابية تلف وتدور فى كل المحافظات، وهناك تسابق بين قيادات ناصرية لامعة على أن تحجز لنفسها مقعدا فى هياكل الحزب القيادية، وكان اللافت مثلا أن بعض الأسماء الكبيرة قامت بتسكين عضويتها فى محافظاتها الأصلية رغم إقامتها فى القاهرة.
وتزامن مع ذلك عقد اجتماعات مكثفة لإصدار الجريدة وتم الاتفاق على أن يكون اسمها «العربى» للدلالة على أن الحزب ليس شأنا مصريا وفقط وإنما شأن عربى، وكما ذكرت من قبل كان كامل زهيرى بتاريخه الصحفى العظيم كان هو رئيس التحرير الذى تم إرسال اسمه إلى المجلس الأعلى للصحافة، ودارت الاجتماعات استعدادا لإصدار الصحيفة فى مقرها الجديد، وشغل محمد فايق رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان حاليا موقع رئيس مجلس الإدارة، ولم يكن هناك أى مشكلة مالية، بل احتل هيكل الأجور فيها مكانة متميزة بين الصحف.
طرح كامل زهيرى فى الاجتماعات أحلاما هائلة حول الجريدة كى تكون مؤسسة سابقة عصرها فى مصر، تحدث مثلا عن صيغة ملكية الجريدة بأسهم ومنها أسهم للصحفيين، وأن تكون علاقة الحزب بالجريدة علاقة محسوبة، فالجريدة تكون معبرة عن الفكر الناصرى، لكنها فى نفس الوقت لها استقلالية فيما يتعلق برؤيتها المهنية عن الحزب، ومما أذكره فى أحد الاجتماعات التى حضرتها مع قوله متندرا: «مش هنتعب فى جرنال، وبعدين ألاقى واحد جى يحاكمنى، عشان خاطر كاتب استمارة حزب، وكأن عنده حصانة بسبب حتة ورقة فيها بيانات بتقول إنه عضو حزب»، كان «زهيرى» يطرح هذا الكلام فيقابل بدهشة من قيادات كبيرة فى الحزب، وبدا مثلا أن كلامه عن «الجريدة المملوكة بأسهم» غريبا على هذه القيادات، كما أن كلامه عن عدم تدخل الحزب فى سياسته التحريرية أثار غضبا لدى البعض وغذتها هذه القيادات، فجاءت استقالة زهيرى مبكرا.
كشفت استقالة «زهيرى» المبكرة حالة الخلاف داخل قيادة الحزب، وتحديدا بين كباره الذين عملوا إلى جوار جمال عبدالناصر، فمحمد فايق ومعه آخرون كان هو صاحب اقتراح «زهيرى» وتدعيمه، فيما كان ضياء الدين داود ينحاز إلى «عبدالله إمام» صديقه التاريخى، ونظرا لقيمة «زهيرى» والترحيب الكبير به واعتبار اختياره دليلا على أن القادم الجديد فى صحافة الحزب سيكون علامة كبيرة، فإن طرح «داود» لـ«عبدالله إمام» لم يحظ بقبول عام فى الحزب، غير أن هذا الخلاف كان يتم إدارته فى الخفاء بطريقة غير معلومة، وسار فى سكة تطفيش «زهيرى» بأى طريقة، وانتهى الأمر إلى دفعه للاستقالة، وبمقتضاها أصبح الوضع أمام صيغتين، صيغة الجريدة الأسبوعية برئاسة محمود المراغى، والجريدة اليومية برئاسة عبدالله إمام، وحدث ذلك كنوع من حل مشكلة كبيرة وهى، رغبة ضياء فى أن يكون «عبدالله إمام» رئيسا للتحرير وتمسكه بذلك مهما كان الأمر، وفى نفس الوقت رفض الأغلبية الكبيرة من قيادة الحزب لرغبة «داود».
لم يكن الخلاف حول هذه القضية وطريقة حله مجرد اختيار قيادة لجريدة الحزب، وإنما كشف عن طريقتين للتفكير، واحدة منهما لم يكن لها علاقة بالمستقبل.. يتبع.