من يتابع تطورات الأحداث فى بعض الدول سيكتشف وجود تغيرات داخل بنية هذه الدول تجاه الحقوق والحريات العامة، والأغرب أن دولًا أوروبية تسير فى هذا الاتجاه دون أن تعير الانتقادات الأوروبية انتباهًا، كما دخلت على الخط نفسه إسرائيل التى تحاول فرض قيود على منظمات المجتمع المدنى، وتستند هذه الدول إلى ما تعتبره المصلحة العامة التى تقتضى التوجهات الجديدة.
فقبل شهر تقريبًا ثار الاتحاد الأوروبى على تعديلات وصفت بأنها مثيرة للجدل، أدخلتها الحكومة البولندية على قانونين خاصين بوسائل الإعلام العمومية والمحكمة الدستورية، ودارت معركة بين بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبى، وبولندا التى أعربت عن استغرابها من «الضغط على برلمان منتخب ديمقراطيا»، وهو ما رد عليه رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بقوله «علينا ألا نضخم الأمور، مقاربتنا بناءة جدا.. لسنا فى صدد مضايقة بولندا»، وبدأت الأزمة بعدما تبنى البرلمان البولندى قانونا فى 24 ديسمبر يعدل قواعد التصويت بالغالبية الموصوفة للمحكمة الدستورية، حيث عينت الحكومة خمسة قضاة جدد ما تسبب باختبار قوة مع رئيس هذه المحكمة، كما تم التصويت على قانون آخر ينص على إقالة جميع المدراء الحاليين لوسائل الإعلام العامة فورا وتعيين رؤساء محطات التليفزيون والإذاعة من قبل وزير الخزانة، وهو ما اعتبرته أوروبا نوعا من الرجوع للخلف، فيما أعرب وزير العدل البولندى زبينييف زيوبرو عن «استغرابه» لما وصفه بأنه «محاولة للضغط على برلمان منتخب ديمقراطيا وحكومة دولة ذات سيادة»، مضيفًا «هل يمكننى أن أطلب منكم التحلى بضبط النفس مستقبلا فى الدروس التى يتم إملاؤها على برلمان وحكومة دولة ديمقراطية ذات سيادة، رغم الخلافات الأيديولوجية القائمة بيننا».
وبعيدًا عن بولندا فقد صادق الكنيست الإسرائيلى الاثنين الماضى بالقراءة الأولى على مشروع قانون، أثار أيضًا انتقادات دولية، يهدف إلى إرغام المنظمات غير الحكومية على كشف أى تمويل تحصل عليه من حكومات أجنبية، وأقر النص الذى طرحته حكومة بنيامين نتنياهو بـ50 صوتا مقابل 43 بعد نقاش حاد، وينص مشروع القانون على إلزام المنظمات التى تتلقى تمويلا بنسبة أكثر من %50 من ميزانيتها من الخارج بأن تذكر ذلك فى جميع تقاريرها الرسمية، وهو ما اعتبره معارضو القانون أنه يؤسس لمناخ اضطهاد يستهدف الجمعيات الرافضة للاستيطان اليهودى فى الأراضى الفلسطينية والناشطة من أجل حقوق الإنسان، فيما أكدت وزيرة العدل إييليت شاكيد من حزب البيت اليهودى القومى الدينى، والتى اقترحت مشروع القانون أنه لا يستهدف أى منظمة غير حكومية بالذات.
ووفقًا لما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية فإن الجمعيات المعروفة بأنها يسارية تعد الأكثر استهدافا بالقانون الجديد، ومن بينها جمعية السلام الآن المناهضة للاستيطان ومنظمة بتسيلم التى ترصد الانتهاكات الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، و«كسر الصمت» التى تجمع شهادات جنود إسرائيليين حول أعمال انتقام ضد الفلسطينيين. ربما يكون مستبعدًا أن يأخذ الأوروبيون والأمريكيون هذا المنحى الذى اتخذته إسرائيل وبولندا، لكن من المتوقع أن تبدأ بعض الدول الأوروبية البحث عن تقييد بعض الحريات العامة فى سبيل المحافظة على الأمن الداخلى لهذه الدول، وربما يجدر بنا الإشارة إلى ما حدث فى فرنسا فى أعقاب الهجمات الإرهابية الأخيرة، حيث اتخذت فرنسا قرارًا بقرض الطوارئ وأغلقت حدودها بشكل مؤقت، كما أن النقاش تصاعد فى العواصم الأوروبية حول جدوى الاستمرار فى اتفاقية شنجن، أو التأشيرة الأوروبية الموحدة، وطالبت دولًا أخرى بفرض قيود على تحركات بعض المواطنين، وأمورا أخرى تعتبر استثناء على القاعدة العامة التى يروج لها الغرب والخاصة بإعلاء قيم الحريات العامة، وكلمة السر بالطبع هى مصلحة كل دولة تتطلب ذلك.. فهل هذه المصلحة تكون مبررًا لنا للحفاظ على أمننا، أم أن الغرب لا ينظر إلا لمصلحة دوله فقط.