أنا مدين للأستاذ، والأستاذ هو محمد حسنين هيكل، والدين لم يكن مالا، وإنما وعيا وفكرا بدأ منذ رحلتى الأولى نحو المعرفة، منذ أن كنت طفلا صغيرا يستعين به بعض كبار قريتى كى أقرأ لهم المقال الأسبوعى «بصراحة» الذى يكتبه الأستاذ كل جمعة فى الأهرام، مازال مشهد جدى فى العائلة الحاج صادق عبدالوهاب حاضرا فى ذهنى وأمام عينى وهو ينادينى كى أقرأ له «بصراحة» قبل حرب أكتوبر.
قراءاتى لـ«بصراحة» فى هذه السن المبكرة، نقلتنى من عالم الطفولة إلى عالم الكبار، كنت ألعب «استغماية» و«طير» بكسر الطاء، و«التقليعة» وغيرها من ألعاب بيئتنا الريفية، لكن فى نفس الوقت كنت أتفوق عن زملائى بأننى أعرف أسماء مثل هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى، وبريجنيف سكرتير الحزب الشيوعى السوفيتى، وماوتسى تونج رئيس الصين وشوين لأى رئيس الوزراء، وأنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند، ووالدها نهرو، والزعيم اليوغسلافى تيتو، ورئيس فرنسا جورج بومبيدو وقبله الزعيم الفرنسى التاريخى شارل يجول.
زودنى «هيكل» بهذه الأسماء وغيرها التى أعطت للقرن العشرين معنى، غير أن ما يثير انتباهى الآن ومن واقع ما أرويه عن الجد الفلاح الأصيل الذى كان يحرص على شراء أهرام الجمعة للاستمتاع بمقال «بصراحة» وهزه لرأسه كلما أعجبته جملة أو معلومة، أقول إن ما يثير انتباهى الآن هو، كيف لكاتب صحفى فى تاريخ مصر أن يصبح نجما فى الأوساط الشعبية؟
كيف يكون بمعايير الشباك نجما يبيع الجريدة التى يكتب فيها ويصبح ما يكتبه هو محور المناقشات فى المزارع والمصانع والصالونات؟ والنجومية هنا لم تكن تقل فى ذيوعها وانتشارها عما يحدث مع نجوم السينما وكرة القدم؟
بالطبع كان «هيكل» وحده من فعل ذلك فى تاريخ الصحافة المصرية، كانت «بصراحة» هى المقال الأسبوعى الذى يقرأه فلاحون بجلباب وطاقية، وعمال يقفون خلف الماكينات، وموظفون يجلسون خلف المكاتب، ومن لا يجيد القراءة يستمع إليه فى الراديو على موجة البرنامج العام كل يوم جمعة بعد نشرة الساعة الثانية والنصف.
كان ذلك سمة عصر يلعب الراديو فيه وسيط الإعلام الأقوى تأثيرا، وكذلك الصحافة، لكن ضمان بقاء النجومية بـتأثيرها الضخم والإيجابى كان مرهونا بنوعية المادة التى يتلقاها الناس، ومن هنا نعرف أن نجومية الرجل لم تكن موضة يتم الجرى رواءها ثم تركها، وإنما كانت لبضاعته الأصيلة والصادقة والرائعة.
قال كارهوه إن صداقته بجمال عبدالناصر كانت هى السبب، وتلك كذبة كبيرة، فلو كان الأمر كذلك، لمات هيكل صحفيا بعد وفاة جمال عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، ثم خلافه مع السادات وخروجه من الأهرام فى 2 فبراير 1974، غير أن هيكل ازداد تألقا بعد خروجه من الأهرام، فسلسلة الكتب المهمة التى أصدرها جاءت فى مرحلة تفرغه، فيما يعنى أن الأصل فى تقييمه هو الموهبة.
نعم استفاد من علاقته بعبدالناصر، لكن كم صحفيا جمعته علاقة مع رئيس ولم يستفد بها؟ وكم صحفيا ارتبط بالسادات مثلا ثم مبارك ولا يتذكرهم أحد الآن؟! تحول هيكل بعد خروجه من الأهرام إلى ركن مهم فى القوة الناعمة لمصر التى تتباهى بها أمام العالم، شأنه فى ذلك شأن نجيب محفوظ فى الراوية، وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطى فى الموسيقى والغناء، وفاتن حمامة وعمر الشريف وسعاد حسنى فى السينما.