رحم الله الأستاذ هيكل، مسيرة حافلة من العمل الصحفى والسياسى المتميز، ومشوار طويل من الخبطات الصحفية المرتبطة بالطرف الأول فى أى واقعة شهدتها مصر فى تاريخها الحديث، كان قريب الصلة بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر ومطلع على كل التفاصيل كبيرها وصغيرها، وكان على علاقة بالرئيس أنور السادات واستطاع دون غيره أن يحلل مشهد السادات بكل قوة وجرأة وتعرض وقتها لهجوم عنيف غير أنه أكمل فى طريقه تاركا كل الانتقادات وغير مبال بأى نقد سلبى ليس من باب عدم الاكتراث، ولكن من باب قناعته بأن ما قاله هو الشهادة الحق.
دائما كان هيكل محل جدال، لأن تحليلاته السياسية وروايته للتاريخ لم ترض كل الأطراف، كانت تزعج طرفا طوال الوقت، دائما يمتلك المعلومة والرأى فى وقت واحد، يحسن فى كل الأوقات المزج بينهما دون خلط، وعندما تستمع إليه تنبهر بالتفاصيل قبل أن تصدمك المعلومات الجديدة، يهوى السرد، وفى كل مرة يحكى كأنه يتحدث للمرة الأولى، يزين قصصه التاريخيه بمزيد من التفاصيل التى تزيد تعلقنا بما يتحدث، إن كان حديثه عن لقاء بينه وبين الرئيس عبدالناصر، فحتما سيحكى لك عن ماذا كان يرتدى عبدالناصر وأين كان قبل اللقاء وأين تقابلا، وكيف كان وجه عبدالناصر، ولماذا كان عبدالناصر يرتدى الساعة فى اليد اليمنى ومن أهداها له، وما هى العبارات التى قالها عبدالناصر له وقت اللقاء، ومن قاطعهما، وبماذا أوصاه عبدالناصر بأن يتناول فى هذا اليوم.
هيكل يمتلك مفاتيح هذا النوع من سرد التاريخ، متمكن فى استحضار مشاهد التاريخ بمزيد من الدراما، ويحسن فى الوقت ذاته الربط السريع بين التاريخ فى العهود المختلفة للأنظمة والمقارنة بينها والوصول إلى نتائج سريعة بفرضيات يطرحها هو فى المقدمة. رحيل هيكل صعب على أهل الصحافة والسياسة معا، لأنه فراق لعزيز علينا، فراق لأحد أهم النوابغ الصحفية فى تاريخ المهنة، رجل كتب فى الصحف المصرية والعربية والعالمية، ترجم وألف، وحاضر فى الجامعات العالمية، بل وشارك فى ندوات ببيوت السياسة العالمية، تحدث عنه رؤساء وزعماء العالم، يعرفون مقداره وقيمة ما يحمله فى ذاكرته من تاريخ.
رحل الأستاذ ويبقى لنا سيرته الطيبة العطرة، رحل ولا يزال الجدل مستمرا، رحل وترك لنا كتبه القيمة التى تحمل فكره وعطاءه وإنتاجه، رحل وترك كتابه عن تفاصيل معركة العبور، معركة السادس من أكتوبر فى كتابه الشهير «السلاح والسياسة»، رحل وترك رؤيته عن هزيمة يونيو فى كتاب «الانفجار.. حرب الثلاثين 1976»، رحل وترك لنا ملفات السويس، الكتاب الذى يضم مزيدا من القصص التاريخية والرؤية التحليلة الخطيرة عن وقت صعب من عمر الوطن، رحل وترك لنا خريف الغضب ورأيه عن فترة حكم الرئيس الأسبق أنور السادات، رحل وترك لنا كتابه الشهير «لمصر لا لعبدالناصر» وما يتضمنه من شهادة حق عن عصر عبدالناصر وأيامه الحرجة، رحل وترك لنا «مبارك وزمانه» وهو كتابه الأهم عن مبارك ورجاله. رحم الله الأستاذ هيكل، القدوة والمعلم، الصحفى الذى لم يمل أبدا من البحث وراء المعلومة مهما كبر سنه.