فرق كبير بين الإبداع والانحلال، بين الحرية فى التعبير عن التجارب الشخصية وهتك الأخلاق الإنسانية، وإلا لاعتبرنا السب بالأعضاء الجنسية نوعًا من البلاغة اللغوية، أو اقتنعنا بأن أفلام البورنو قمة الحرية الإبداعية..
الإبداع سمو ورقى وتجرد من اللغو، وليس تجردًا من الملابس والأخلاق، وحرية الإبداع فى العالم كله لها ألف وجه، ولكن هنا فى مصر لا نرى إلا وجهها السافل، فإما الارتجال الأحمق فى الدين، أو الانغماس الأخرق فى السرير..
لذلك يحبطنى كثيرًا أن يتورط المثقفون والإعلاميون فى الدفاع عن هذه الأنواع من الإبداع، لأن أى قواد أو عاهرة سيبهرونكم بإبداعهم فى اللغة الجنسية الخسيسة، وأى دجال أو عبيط من مدعى النبوة سيخرجون لكم من ألغام الدين ما لا طاقة لكم به، فهم دجالون وأنتم غافلون، والله غفور رحيم.
وكلما اعترض المجتمع على هذا النوع من الإبداع الفج، سواء فى العبث بالدين أو التفرغ للغة السرير، خرج مئات المثقفين للفضائيات والصحف والمجلات ينددون ويهددون، وكأننا نحجر على الشيخ الغزالى أو نجيب محفوظ، وأتساءل فى نفسى: هل يرضون لأبنائهم أو لأحفادهم أن يطالعوا هذه الألفاظ الجارحة أو يؤمنوا بهذه الأفكار الزائفة بدعوى أن حرية الإبداع بلا سقف؟! ولأوضح موقفى أنا ضد المنع أو الحجر أو معاقبة هذه الأنواع من الإبداع التى أعتبرها رديئة، أو بالأصح دنيئة، لأن مبدأ وأد الأفكار مهما كانت شاذة مرفوض عندى تمامًا، لكننى فى الوقت نفسه أتعجب من دفاع الكثير من المثقفين عنها وباستماتة، رغم أن مواقفهم قد تبدو باهتة أمام حرية الإبداع فى المعارضة السياسة، أو فى مواجهة نظم الحكم، أو نقد المجتمع، أو شجب تسلط الإعلام وسطحيته، وكأن مجالات الإبداع الوحيدة التى تستحق الجهاد هى التبجح على الدين، أو اللعب على ملاءة السرير.
والمشكلة الكارثية فى هذا الموقف أنه يصنع فجوة ضخمة بين جموع الناس وجموح المثقفين، فالناس غالبًا ما ترفض هذه الأنواع المتطرفة من الإبداع والأفكار، وهذا بالمناسبة طبيعى فى أى مجتمع غربى أو شمالى أو جنوبى، ولكننا نصدر لأنفسنا دائمًا فكرة أن الغرب والدول المتقدمة متفرغة للتشكيك فى الأديان، أو لوصف العلاقات الجنسية رغم أنهم غالبًا متفرغون للضحك على أمثالنا..
هذه الفجوة التى تتسع بين المثقفين والناس بسبب الانغماس فى هذه الدفاعات الخائبة، تقلل من احترام النخبة، ومن تأثير المثقفين على مجتمعهم، خاصة على المستوى السياسى أو الثقافى أو الأخلاقى، ويترك عقول العوام لأكاذيب المنافقين السياسيين أو المنتفعين أو أصحاب الأفكار المنيلة بنيلة، وتجربتنا الشعبية مع الإخوان تؤكد ذلك، فهم سطوا على عقول الناس لأن النخبة خذلتهم، لذلك فرق كبير بين أن أدافع عن حرية الإبداع عند نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا» أو حسن حنفى فى «التراث والتجديد»، وبين أن أدافع عن قصة جنسية رخيصة أو أفكار دينية خبيثة..
اللغة يا سادة مرآة الحقيقة كما قال الفيلسوف باسكال، وتدنى اللغة ووقاحتها فى الوصف أو النقد يحول أى إبداع إلى انحطاط، ويحول الحرية إلى صفاقة اجتماعية، ونحن أحوج ما نكون إلى مد جسور بين المثقفين والناس، لأن العشوائية والجهل والتسطح أصبحت سمة سائدة فى الهوية المصرية الآن..
هذا الشعب لم يصنعه حكامه أو زعماؤه أو أغنياؤه، هذا الشعب صنعه مبدعوه ومثقفوه ومفكروه..
الهوية المصرية التى فرضت احترامها قديمًا على العالم كله جاءت من كتابات عباس العقاد، وزكى نجيب محمود، والبارودى، وناجى، وشوقى، ودنقل، صاغتها روايات محفوظ، وإحسان، وإدريس، والغيطانى، وغنتها أم كلثوم، وفايزة أحمد، ونجاة، وعبدالحليم..
هذه هى القيم الإبداعية التى نبحث عنها الآن، وعلينا أن ندافع عنها..
حرية الإبداع يجب أن تكون لها أولويات، وألا تقتصر على نظرة ضيقة وحمقاء تضر أكثر بكثير مما تفيد.