بمناسبة زيارة القيادة السياسية لليابان، وإلقاء «السيسى» كأول رئيس عربى كلمة أمام البرلمان اليابانى «الدايت»، دعونا نمر على تجربة اليابان كنموذج يحتذى به فى صمود إرادة الشعوب ونجاحها، فالمفارقة أن اليابانيين قد استعانوا بالتجربة المصرية قبل العدو نحو مسيرتهم الناجحة عندما كانت مصر منبرًا للحضارة ملهمًا لشعوب الأرض، لا أقصد الحضارة القديمة فحسب التى تعود لآلاف السنين، وإنما كشعلة للحداثة أشاعت فكرًا وعلمًا للإنسانية.
ففى عهد الإمبراطور «ميجى» أرسلت اليابان بعثة «الساموراى»- الذين كانوا أكثر الطبقات تنويرًا وتعليمًا فى ذاك الوقت فى اليابان- إلى مصر عام 1862 للوقوف على أسباب نهضتها وتقدمها، وكانت البعثة قد وصلت إلى ميناء السويس واستقل أعضاؤها اختراعًا حديثًا يسمى القطار، متوجهين به إلى القاهرة، فلم تكن اليابان قد عرفت بعد السكك الحديدية، كما لم تكن على دراية بـ«التلغراف» الذى أثار دهشتهم لينبهروا بالدولة الحديثة التى تمكن محمد على باشا من بنائها منذ أوائل القرن التاسع عشر.
فاليابان قد تعرضت فى نهايات الحرب العالمية الثانية لهزيمة نكراء أدت لكوارث مفجعة، فجنحت توقعات السياسيين إلى فقد الأمل فى قدرة هذه الدولة على أن تقف على قدميها من جديد، كيف لا وقد صارت دول العالم الثالث أفضل حالاً منها فى ظل هزيمة نكراء وخسائر بشرية فادحة ودمار غير محدود، فلم تكن النتيجة أن انصاع اليابانيون لموت دولتهم، فبعد عقود قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية صارت اليابان ثالث أكبر اقتصاد فى العالم، ومن أهم وجهات التقدم والرقى بين شعوب الأرض قاطبة، ومثالاً رائعًا لإرادة الشعوب والتحدى.
فمن يبحث فى سر ما صنعه اليابانيون ببساطة سيجد أنهم كجماعة بشرية قد توافقوا بعقلهم الجمعى على محو ويلات الهزيمة، وصناعة الأمل بالإرادة، ليتحقق النجاح، فكان التحرك فى البداية بدافع الرد على هزيمة وإهانة أمة بنهوض عظيم يجبر التاريخ على أن ينسخ ماضى الانكسار ليسطر قصص الانتصار، واعتمدوا فى ذلك على بناء المواطن الذى كرسه نظام التعليم المتطور. فالتجربة اليابانية لم تكن نتاج عمل هين، إنما خطة إصلاحية لم يضعها الحكام فحسب، إنما أسهم فيها جميع أبناء الشعب، فآمنوا بها وكانوا على قلب رجل واحد يعملون كخلايا النحل منظمين وملتزمين كطوابير النمل، فيبنون ويعمرون ويستثمرون فى الإنسان قبل الأرض.
فكما استلهمت اليابان من التجربة المصرية من قبل، دعونا نستلهم منهم اليوم هذه الروح الوطنية القتالية فنكون جميعًا فى حالة اصطفاف وطنى، وإجماع فكرى، وتوحد فى الأهداف، واجتهاد فى الوسائل لنصل فى النهاية إلى تجربة نجاح بصبغة مصرية، فنعالج التحديات بأطر مجتمعية متوافق عليها من جماعتنا البشرية لوأد التيه الذى ضرب مجتمعنا منذ عقود.
وقد تخللت التيه لحظات استفاقة فى محاولة قوية وجادة تسعى للتغيير عبر جمعيات عمومية انعقدت فى ميدان التحرير فى 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013 فى مشاهد هى الأروع فى تجسيد موجات توافق العقل الجمعى المصرى الذى شرع فى تبديد قوى الظلام التى استنفرت عبر أبواق التجهيل لممارسة هوايتها المعتادة فى نشر التيه مصحوبًا بجرعات اليأس، لتعظيم الفتور والتبلد ليتيبس المجتمع فينكمش فى طموحاته، ويندم على لحظات الاستفاقة التى تؤكد أصالة معدنه.
يبقى لزامًا علينا أن نتبع خطوات تطابق فى اتباعها كل نماذج الأمم الناجحة التى انتقلت فى بضعة عقود قليلة من مصير الضياع والانهيار إلى محافل العالم المتقدم، مثل اليابان وألمانيا وسنغافورة والبرازيل وغيرها، فجميعها كانت بداية نجاحها فى وضع رؤية للجماعة البشرية ونشرها بخطاب تنويرى لصناعة الأمل، فتقوية الإرادة لتحقيق الانتصار فى النهاية.