الآباء يأكلون الحُصرم والأبناء يَضرسون، انطلاقًا من هذه المسكوكة اليقينية ذات الطابع الحِكَمى، خرجت في يناير 2011 مدافعًا عن أسناني، عن حقي في الانتقاء لمعدتي وفي ألا أنوب عن الآباء في هضم أطعمتهم، وأنا الذي عانيت كثيرًا من ظلال هذه المسكوكة اللغوية وانعكاستها دائمة الحضور، فمنذ اختار أبي، أو أُجبِر، على أن يكون فقيرًا ومريضًا وريفيًّا وأميًّا، وأن يموت وأنا طفل لم تتدرّب أسنانه على القضم والمضغ بعد، والواقع يمشي في ساقيّ بقوانينه وسيناريوهاته، تصطكّ أسناني في المدرسة والشارع والعمل ومع الشرطة وفي أروقة المصالح الحكومية، أمشي أنا وجيلي في الحياة ويمشي القدر المحبوك والدراما المغلقة في أرواحنا، صمتَ الآباء حتى ضمرت حناجرنا وتكلّست، ارتضوا بالحدود المرسومة والمقاعد الخشنة المنحوتة في لحم الأرض ، حتى صرنا عاجزين عن المشي وقفز المربّع والخروج من الصناديق، أذعنوا للكتاب والمخرجين حتى ورثنا أدوارًا أضيق كثيرًا من أحلامنا وقدراتنا الفردية، لهذا خرجنا في يناير، متمرّدين على الحُصرم وعلى أسنان الآباء وذائقتهم، طال بنا أمد التمرّد وطال تورّطنا في المرّ، خمس سنوات ونيّف ونحن نتقلّب على الموائد، من حصرم إلى حنظل، ومن أطباق فارغة إلا ملاعق وسكاكين تحزّ في لحمنا وتغرف من دمنا، خمس سنوات قلّبتنا على صباحات الله كلها، وعلى ملامح الأيام وتكّات الساعات، فأصبحت لكل منا ذكرى أو أكثر، تتوزع على لحم السنوات الخمس بأيامها الألفين تقريبًا، وما بين التبدّل على الصراخ أو الهمس، التمرّد أو الخنوع، الثورة أو السياسة، الشوارع أو السجون، الهتاف أو الخرس، الكلام المعلن أو المضمر، الصمت الإجباري أو الاختياري، تدرّبت غدد الاشتعال في أرواحنا، وتوسّعت مدن الخوف وأطلاله أيضًا، وصارت الذاكرة جرحًا مفتوحًا على اتساع العالم ولا نهائية الأيام، وفي الذاكرة قدر وافر من الحنين، والندم، والحدّة، والخوف والحُصرم أيضًا.
"جُرحٌ
يُفجّره التَذَكّر
غربةُ في الروح
لا يكفي لسُكناها البَدَنْ
اليومَ تُنكرُنا الشوارعُ
تَكرهُ الأحلامُ صُحْبَتنَا
نسيرُ على نِصالِ الوقتِ
لا صوتٌ يُطيقُ العيش في أفواهنا
لا صمتَ يقبَلُنا
ولا نَقتَاتُ إلا
من ضَبَابِ الذاكرةْ".
قبل ثلاث سنوات تقريبًا من الآن، وفى ليلة ربيعية من طابور الليالى التى شوّهها الواقع السياسى المصرى منذ الحادى عشر من فبراير 2011، تاريخ عزل مبارك وإسقاطه عن عرش مصر، وتحديدًا فى العاشرة من مساء الثانى والعشرين من مارس 2013، وبينما انتهيت وبعض الأصدقاء الناشطين فى العمل السياسي والثوري، من اجتماع لمناقشة تطورات الوضع العملي على الأرض، وسط حالة من التصعيد الاحتجاجي السياسي والمدني، في إطار الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين الصاعدة إلى رأس السلطة قبل شهور، وقبيل الاستعداد لحملة شعبية واسعة لجمع التوقيعات ضد الجماعة ومندوبها في القصر الرئاسي، وبينما نغادر مقر أحد الأحزاب السياسية في محافظة الفيوم - المدينة المصرية الصغيرة ذات الطابع الريفي - فوجئنا بهجوم من عدد كبير من البشر مختلفي الأعمار وذوي السمت الريفي بالغ التواضع والبساطة، يحملون عصيّهم وأسلحتهم، فخيّل لنا من الدهشة أنها تسعى، وكانت بالفعل تسعى، ولكن لكي تفض اشتباكًا سياسيًّا وشجارًا مدنيًّا، خضناه وخاضه ملايين المصريين، مع الجماعة الراديكالية، على الطريقة التي يحبّها متطرفو اليمين الديني ويجيدونها، القصاص البدني المباشر، والتأديب العنيف، كرسالة بالغة الحدّة والوضوح بالتهديد، ومحاولة عملية لدفع الخصوم واللاعبين المناوئين إلى الخروج الطوعي أو الإخراج الجبري من المباراة/ المعادلة السياسية.
الموقعة البدنية التي تعرضت لها بعد عامين من الشجار مع نظام الحزب الوطني الساقط، مثّلت أول اصطدام عملي مباشر لي بالبنية المركزية العنيفة للتيارات الدينية، استعدت تاريخًا طويلاً من المصادرة والمنع والتنكيل والقتل، عاناه طابور من الحالمين، الذين قد لا أفوقهم حلمًا ولا يقلّون عني رومانسية وثورية، ربما وفّرت لي التجربة مخزونًا من المشاهدات والحقائق، الذهنية والتجريبية، لاتخاذ موقف من الرؤى المركزية المستدعية لليقين إلى ساحة الفعل السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، فبقدر ما تركت من آثار على الجسد طبعت خدوشًا وندوبًا في الروح والوعي، من أين يتأتّى لممثل محدود الدور على خشبة مسرح الحياة الواسعة، جبروت مصادرة النص وفضاء المسرح وسينوغرافيا العرض وعيون الجمهور أيضًا؟ وكيف يمكن للعرض أن يكون عرضًا إذا تخلّى عن كامل أُبّهته وبهائه منتصرًا لعنصر على عناصر ولمفردة واحدة على معجم واسع؟! من هذه العتبة المفصلية وجدت نفسي أمام تأسيس مختلف لآلة قراءة الواقع وآلية اشتباكي معه، من الاصطدام بيقين الآخرين تحلّلت من يقيني وتورّطت في نسبية العالم تورّط الدهشة والاكتشاف والمعايشة، ومن العنف أصبحت أكثر رقة، ومن الحرب آمنت بالسلام، ومن السطحية عرفت أنه لا بديل عن العمق الموغل إلى القاع والجوهر الصافي، كي نفهم البسيط الراهن ونفك شفراته، فكانت إعادة القراءة للصورة والصوت والذاكرة.
"العِـيَـالُ الذيـن أفـاقــوا
عـلى لَـسْعـة الضـوءِ
كـانــوا كِـبـارًا
ولـيِّـنِـيــن
فَـلَـم يَسْـطـَع الـلـيــلُ
بَـسْـتَـنَـة الخـوف فـيـهـم
ولـَمْ يَـطْـعَــم الـكَــسرُ
طِـيْـنَــةَ أقـدامـهـم".
من الصعب جدًّا أن تـلج شَساعةَ الدنيا، فتتمدّد في الزمان والمكان، وتتحقّـق - أو تظلّ تائهًا في الحيِّـز الصفريِّ على يَسار الحياة - بينما استاتيكيَّـة الوطن على حالها، والصدأ يعلو كرسيَّ حكمه ومن يعتليه.
كنا - كجيل استهلك عُمرَه نظامٌ واحد - محكومين بالثبات القاتل، ولم يكن الحلم بثورة تخربش طَمْي هذا البلد مُعلَّقًا، بالمنطق البسيط، في رقاب عِـياله الخُضْر، كانت طبائع الأمور تنتظر ممَّن حضر إغلاق "الهَويس" أن يُبادر بمحاولة فتحه، لأنَّ صغار الحقل لا يمتلكون المرجعيَّةَ التي يقيسون عليها فداحةَ اختفاء الماء، وحلاوة وجوده السابقةَ، ولأنَّ الكبار ما زالت تحفظ ذاكرتهم خبرة جريان الماء في هذه المسارات المُغلقة، وعَرضيَّة الجدب والعطش.
ربما كـلَّ المنطق وهو يتمشَّى في عقول المصريين، فكان الحدث على غير توقُّع أو قياس، لم تكن ثورةً على أوضاع سياسيَّة، وإلا لكان أتاها السياسيون، ولم تكن ثورة على أوضاع اقتصادية وإلا أتاها الجائعون والعشوائيون، ولم تكن ثورة ثقافية أو اجتماعيةً وإلا أتاها المبدعون والأنتلجنسيا ومجموع الطبقة الوسطى بقراءتها الشرائحيَّة الكاملة، خبرات الصورة تقطع بأنَّها ثورة، بها ما بها من الأسباب والمُنطلقات، ولكنّها كانت - في المقام الأوَّل - ثورة على الشيخوخة، على تصلّب شرايين الوطن، على توقُّف الدم عن الجريان في أدمغة الأحصنة العجوز التي تسحب هذه الخارطةَ - بالقرار أو بنقده - على غير هوىً منَّا أو دليل.
كثيرون - وأنا أحدهم - عاقرنا هذا الحلم سنوات طِوالاً، قبل أن يضع بصمته في مَائنا، وقبل أن نضع ماءنا في طِيْنة الواقع، اقترفناه بأساليب عديدة، كانت كتعهُّد الله والندى والفلاّح للبذرة، وكانت في الوقت ذاته ترضية نفسيَّة واتّزانًا معنويًّا لذواتنا التي تتمدّد وتنكمش في فراغ الواقع، دون بيِّنَة أو سبب فيزيقيٍّ من برودة أو حرارة، تتكاثر الحوادث، ويُعاد إنتاج المواقف والغضب كحزم مُتعاضدة، والناس نيامٌ، وقاموس الضيق والسّباب يقظ على قوارع الحناجر، مُنفردًا وهَامسًا: قصائد الشِّعر، والاحتجاجات والتظاهرات الضئيلة المتباعدة، والسجون التي تـلوّح للمارَّة بين الفَيْنة والأُخرى، كان النظام بارعًا في تلقيم حطب الشعب للنار، بشكلٍ يُبقي على التوتر والقَبول، بنصف عين مفتوحةٍ ونصف موت، إلى الحد الذي أفقد الحلم بريقَه، وجعل البشارات الأولى للخامس والعشرين من يناير غير مُثيرةٍ لمن ظَلُّوا يتحسَّسون فراغ المَخَادع، في انتظار حوريَّاتهم المَوعودات - والمُبشِّرات - بالمُتعة والغَنَج.
تصاعدت الدراما، وأثبت ممثّلو الأدوار الصغيرة جدارتهم بالبطولة، بينما نجومُ الشيخوخة القُدامى - على ضفَّتي الثورة - يُناضلون بمجاديف صدئة، وفي اتجاهات أُخرى، تماثيل من العجوة تصلَّبت بين المُعارضة والمُوالاة، وألاعيب بهلوانيَّة مُشتركة تحاول سرقة الكاميرا وبقَع الضوء المحدودة، ومُصادرة السيناريو من كاتبيه الجدد، حداثة الكـتـبـة نفسُها أغرتهم بهذا، وساعدتهم كثيرًا عليه، فدائمًا ما تجيد الشيخوخة مُصادرة الزمن الأخضر.
انطلقت صَافرة المُستقبل، بينما كان مُستطيل الثورة الواسع خاليًا إلاَّ من الأخضرِ، لم نكن نملك الملعب، ولا حكم المُباراة، ولا حقَّ تحديد وقت اللعب، عُقِدت الصفقات في المُدرَّجات خلف ظهورنا، فأحرزنا هدفنا الأوَّل - مُنفردين دون عون، وربما دون موافقة من أحد - ليمتلئ الملعب فجأةً بالمُحتفلين والمُلوِّحين والساجدين، يهنِّئون بعضهم البعض، ويتفقون على جدول المُباريات المقبلة، كانت الرومانسيَّة الثوريَّة مُخلصة لنا، وداعمة لهم في آن، أنزلوا الله والوطنيَّة والمدنيَّة والليبراليَّة والماركسيَّة إلى المزاد، فخسرت القيم والأيديولوجيَّات، وخسرنا نحن، وخسرت الثورة، بينما ربح المطنطنون والكهنةُ مُنفردين.
كنت - بشكل شخصيٍّ - غير مُطمئنٍّ إلى الميدان طيلةَ أيام ثورتنا الأولى، الثمانية عشر يومًا البيضاء كما يرونها، غير مُطمئنٍّ إلى مظاهر التديين والترييف التي تسيطر يومًا بعد يوم على مجاله العام، بينما مُراهقو الثورة والإعلام يُهلِّلون للحمايات المُتبادلَة لصلوات وقُداسات الثوَّار، كانت أخطاء وجرائم وهفوات وتجاوزات الميدان - الذي حاولوا تصويره بأَثر رجعيٍّ كساحة ملائكيَّة - تنثر جميعها في روحي الطمأنينة أكثر من مزاد المشاعر الدينيَّة المُصطنعة، والتي نجحت في تركيع الشعب أربعةَ عُقود، مُنذ صكَّ الرئيس "المُؤمن" محمد أنور السادات، عمْلتها المُعتمدة، لم يكن الميدانُ - بالمُناسبة - ملائكيًّا قَط، هي صورة مجازيَّة اعتمدها الرابحون الجدد، في إطار ترسيخ مرجعيَّة قَادرة على تشويه موجات وتوابع هاته الثورة، بعد قطف مدّها الأوَّل، كي لا تنتصب لجذرها موجة أخرى.
كان الميدان - ميدان التحرير وأشباهه فى محافظات وأطراف مصر - إنسانيًّا مصريًّا بامتياز، لا تغيب عنه الانفعالات والشِّجارات والسرقات والتحرُّشات، هكذا يستقيم الأمر سُوسيولوجيًّا، الثورة مُحاولة لإِقامة المائل، وليس من الطبيعيِّ أن يستقيم مائل الشعب بكبسة زِرٍّ، ولا أن تختفي أمراضه دون إتمام العلاج واستنفاد فترة النقاهة، جاء الميدان، وجاء الناس، ورحل مُبارك ونظامه، وكان مُنتظَرًا أن ترحل أمراض المُجتمع، وأن تتعافى القيم.
"حُلْمُنا
كان قَطْرَةَ ضَوءٍ
على جَبهَةٍ مُتوَضِّئَةٍ
ونَدىً فَوْقَ مُصْحفْ
وكُلُّ التفاصِيلِ
- إلاَّكَ ـ
قد تسْتبيح خِيَانَةَ حلْمِكْ..
أَفَاقَ الترَاب
على مَوكِب الأَحذيَةْ
بينما قد أفاقَ الحذاءُ
على صَفْقَةِ الحكْمِ
- رغمَ الجَفَاف ـ-
فأَحسَنَ قَتلَ النَّدى
ومُصَادرَةَ الأَوْديَةْ!".
المُراهقة الثوريَّة جعلت بالونةَ التنحي ثياب عيد لطفل خاصمته الألوان، وعيَّره الأتراب بالعُريِ، لملمت خيمتي صبيحةَ "السبت" التالي للملمة "مُبارك" لنظامه وخيبته، عُدت إلى المنزلى نشوانا، وما من سبب للنشوة سوى لهو الصغير بحلوى المَولـد عِوَضًا عن بهجة وعناء تدشينه، بينما آخرون كثيرون عادوا إلى أماكن أُخرى، لم يجد الحاكم العسكريُّ الجديد شريكًا مُفاوضًا، من صُنّاع الثورة وأصحابها الحقيقيِّين، يقتسم الفىء ويُحسن مُعاملةَ الأسرى، ويُهَندم البيت دون أن ينقض القواعد.
أخذتنا العزَّة بالنصر، فلم نهتمّ بما تبقَّى من وقت المُباراة، ولا بتغييرات الخصم، أخطأنا وأخطأ شيوخُنا الذين عركتهم التجارب، فلا صلّوا معنا مُحافظين على نقائهم قبالتنا، ولا صبأوا معهم مُحافظين على ثورتنا قبالتهم، وربما لم نكن مُضطرِّين - لو أحسنَّا الذبح - إلى أن نُسلم رقابنا لمذبحهم في مواسم أخرى للدم، تعامينا أو تغافلنا عن حتميَّة دخولها على صهوة التفاهمات والصفقات وعاديات الزمن: 26 فبراير، و9 مارس، و8 أبريل، والعباسيَّة الأولى، ومسرح البالون، وأحداث ماسبيرو، ومحمّد محمود الأولى، وأحداث مجلس الوزراء، والعباسيَّة الثانية، ومحمّد محمود الثانية، وسيمون بوليفار، وأحداث الاتحاديَّة والمُقَطَّم وما تلتها حتى اليوم، من مواقع وحوادث واستهدافات جماعية أو شخصية، بأسماء وإشارات لغوية صبحت لها محمولاتها الدلالية وخدوشها العميقة في لحم الذاكرة، بعيدًا عن التواريخ والوقائع والسرد المنظم للحوادث، وما زال القوس مفتوحًا، وكـتاب دراما الدم يقظين، وما زلنا - بعد أكثر من ستين شهرًا - نحلم بالثورة ونرتجل أدوارنا على مسرحها، ونخطئ في تحديد الأهداف والسُّـبـل وملامح الأصدقاء والأعداء، ربما لأنَّ الأهداف نفسها غابت منذ البدء، اكتفينا بالهدف الاستراتيجيِّ وتناسينا الأَهداف التكتيكيَّةَ والمُناورات والتحرُّكات الطارئَةَ، وتبدّل علينا الأصدقاء والأعداء غير مرَّة، فاختلطت الملامح وتداخلت المشاعر واهتزت الأرض وما ربت.
نجح الجميع - برغبة ومصلحة، أو بدفع وتواطؤ - في سحبنا وسحب الواقع الجديد من مُربّع الثورة إلى مُربّع السياسة، كان استفتاء تعديل الدّستور الأوَّل، قبل خمس سنوات من الآن - وفي أوَّل مارس بعد مُبارك - خنجرًا في خاصرة الجميع، الجميعِ بمن فيهم المؤسسة العسكرية، الذين ألبسهم الحلفاء الجدد "الميتافيزيقيون" حلـل وقـبّعات المماليك، وحاكوا لرأسيها نهاية كنهايتي"أيبك" و"أقطاي".
صُعوبة وقسوة النهاية، كانتا في افتقاد آليات البداية، قوَّتنا كانت في المغايرة والسُّخرية والإبداع، ثُرنا وتظاهرنا واحتشدنا واعْتصمنا، بينما كـنَّا نُغنِّي ونُنشد الشِّعر، ونكلـل هامات اللحظات بالنِّكات، كان حجر الزاوية الأوَّل لهذه الثورة صبغتها الثقافيَّة والإنسانيَّة التي وضعها أبناء الحلم المارقون، ومُحطِّمو القواعد والأُطر السوسيوسياسية المُنَوِّمة، فنجحنا في سحب الجميع - وفي القلب منهم الرَّاديكاليُّون - إلينا، على أرضيَّة مُشتركة، صغنا نحن قواعدها، ورسمنا خارطتها، كان المدّ الثقافيُّ والإبداعيُّ المُصاحب للثورة يُنبئ بعلمانيَّة تتصالح عليها الفئات والطبقات الملتحقة بهذا الكرنفال، على تنوعها وتمايزاتها، وكان الإبداع قِدر الصَّهر الذي يُعاد تشكيل المواطن المصريِّ عبره، كان خفوت هذه الحالة الإبداعيَّة إيذانًا بالعودة إلى دوائر الانتماء الصغيرة والدوجمائيَّة التي نجحت استراتيجيَّات النظام القديم في غلقها على الروابط الأوَّليَّة، عقديًّا وعشائريًّا وجغرافيًّا، وكان الاستفتاء على تعديل الدستور - في أوَّل مارس دون مُبارك - أوَّل خنجر في خاصرة الثورة وبنيتها الثقافيَّة الوليدة، التي كانت خسارة نظام الحزب الوطنيِّ الكبرى في عدم قُدرته على تفكيكها.
"أصل الرصاص ما اصطفاش
لا شَكل ولا مِلَّة
طالعين بحبّ الوطن
وبكُره سَجّانه
عنوانّا يَحْيَا الوطن
ومُوتنَا عِنوَانه
ضِحكتنا زيِّ الرغيف يِضْحَك لِفَرَّانه
وحْلِفنا لمَّا استَوِينا
واتْحَرقنا بجاز
نكاية في الخباز.. ما تباتي مُحتلّة
أصل الرصاص ما اصطفاش
لا شَكل ولا مِلَّة
كان السواد حالِك
حَال العَبِيد حَالِك
وشبابنا أوحَالِك
طالك ف تِرْحَالِك
غَسَل بِدَمّه الشريف
ضَعْفِك وأوحَالِك
مش بسّ هِدمَة ورِغِيف
أو كُره غَالِي ونظيف
قوَّى الشباب الضعيف
ده كُرْه للمماليك
ورغبة في تمليك
المُلك للمَالِك
يا عاركوا يا شَعبِنا لو دَمّنا يتهان
تبقوا دَبحتوا الوطن
والشُهَدَا دول.. خِرْفَان
هيّا البلد واقفة على عَجوز خَرْفان
يخرب بيوتنا بقي
لو نجحت الشِلَّة
أصل الرصاص ما اصطفاش
لا شَكل ولا مِلَّة".
صوت الرصاص كان أضعف حلقات المواجهة، إيقاع الشعر والأُغنيات كان أقوى وأنقى وأكثر عُلوًّا، رُبما كانت نشوتنا في رحاب الميدان/ الميادين - كفنَّانين ومُبدعين وأصحاب رؤى وتطلعات ثقافيَّة - أكبر كثيرًا من أَبعاد الصورة، ومن قدرة المشهد على إبراز إمكاناته التعبيريَّة الكاملة والكامنة في آن، لم ننشغل كثيرًا بمعطيات ومتطلبات دولة ما بعد النظام، بناء الإنسان في أعرافنا أهمُّ من بناء أنظمة الحكم، ولكنَّنا لم ننجح في إقناع جميع الشركاء والمُتربّصين والمُلتحقين بقطارنا، دون تذكرة ركوب صالحة للجوار أو مقعد يتّسع لأمانيّهم ومطامعهم، بأن نعمل على تعانق الأرواح، قبل، أو بنفس قدر، عملنا على تكَاتف الأبدان، وعلى توحيد الرُّؤية والحلم، قبل توحيد الخطوة، فظللنا نغنِّي ونكتب الشِّعر ونسكب "بالِيتّات" ألواننا على أحزان الحوائط وسواد الأسفلت وسواد القلوب والنوايا، دون أن تتغيّر ماهيّة هذا السواد إلا في عُيونِنا وحدنا وحسب.
"الأرض بتعْرَق أناشِيد وأغاني
والشُّهدا بترجع
وسط المُتظاهرين من تاني
والفرعون مَسجون
وأنا مجنون بالفرحة
وطارحة ف حَنجرتي الأحلام زيتون
على كُلّ غصونه حَمَام مَدهون
بالأحمر والأبيض والإِسْود
وبيهتف زيّ النِّسر
تحيا مصر
تحيا المشاوير لميدان التحرير
أحجار الإصرار على أكتاف الثوَّار
والأنفاس إعصار
والإخلاص أنوار
والتَّار براكين من نار
والأسفلت حرير
يا رصيف بيلَمْلِم ف شَتاتنا
يا رغيف بيطَبطَب على مِعْدتنا
رغبتنا القنديل
وزيوته جِتَتَنا
وأرواحنا فَتِيل
وعْيُونَّا بتطُقّ شَرار
هنوَلَّع فينا
عشان الجايين بعدينا
يوصلوا لِمَكان ما اتمَنِّينا بخير
إن ماتت مصر ما نبقاش
وإن رِجعِت
يبقى ما مُتْنَاش
ما إحنا إللي وشوشنا بطَبعِتها
لا خَرْبِشنا الفِطْرَة
ولا رَبَطْنا ضَميرنا ف شَجرِة غِيرنا
وبِعْنَا حَرِيرنا بخِيش وِبقَشّ
وْعَرِّينا فْ أهالينا وْما اتكَسيناش
ما اتعَلِّمناش شُغل الأوباش
إنِّ الأوطان
ف عروشنا وف كروشنا وف قروشنا
قَرَشنا حجارة الأرض
وعِشْنا وعَشِّشنا وحَوِّشنا
ولَطَّشنا بريشنا ف كُلّ السماوات
وما طرناش
ما إحنا ما نِسْوَاش
إلاّ بمصر
تحيا مصر".
غرائبيَّتنا تجعلنا نفصل بين حياة الأرض وقاطنيها، بين حياة الوطن ومواطنيه، ربما كانت أكذوبة استعماريَّة، أو خداع مَلكٍ أو أميرٍ أو نظام حكم، جعل الوطن فراغًا مُجرَّدًا، يكتسب قيمته الذاتيَّةَ دون سياقيه الإِنسانيِّ والاجتماعيِّ، أكبر منتجي ومستهلكي هذه الخُدعة المفاهيميَّة هم جنود الجيوش النظاميَّة، ربّما لطبيعة رهاناتهم - الاختياريَّة أو الجبريَّة - يحتاجون إلى مصكوكات ضخْمة ومجرَّدة، تدعم الرُّوح وتُبقي على رؤيتهم المُقدّسة لجلال تراب الأرض وتفاهة طين الجسد، رؤية - رغم اختلاف سياقها - لا تأتي بمعزل عن السياق العام للثقافة المصريَّة الطارئة، أو الوافدة من منصات دينية ومالية ارتضينا تبعيّتها، ثقافة تخاصم المنجز المصري العريق في إجلاله للساكن قبل المسكون، وتحتقر الجسد دون أن تتّصل بالرُّوح، احتقارٌ ليس كـ"نيرفانا" البوذيِّين، أو كخلود المصريِّين القُدامى، رُبما كانت هذه الرؤية نفسها، في الثقافة البدويَّة المتاخمة، والمصرّة على النفاذ والاختراق للمركزيات الثقافية الأكبر والأعرق، وليدة محاولات السيطرة السياسيَّة والاقتصاديَّة على البشر، المحاولات التي تصدر في الغالب عن ذوات ترى نفسها مُطلقة، ولا توارب بابًا لاحتمالات النِّقاش، أو تكامل الرُّؤى والأفكار، ذوات حين تتصدّر المشهد العام، بعد ثورة شابة آبقة، لا بدّ من أن يتطاير في الأفق شرر صدام ثقافيٍّ ومعرفيٍّ وسياسيٍّ، ووطنيٍّ أيضًا.
"مجلس يخون الحلم ف حَبَابي العيون
طول ما الزِمَام في "البنتاجون"
وطول ما تاج راسهم ف شرم الشيخ
حابسهم في البِدَل
حالف يِجرَّسهم
إذا لسانهم مع الشعب اتعَدَل
وإذا القَمَر
ف سَمَا البلد دي.. ما اتخَنَقش
مجلس بيلعب بالوطن كُوْرِةْ قَدَم
مجلس بجم.. غَنَم
تسعتاشر صَنَم
جتت عجول
عاملين عقول
هُمَّا الأئمَّة للفلول
وأغرب من الفِعْلِ الوِسِخ
ساعة تشوفهم غضبانين
مستغربين إنّ الصلا
ما بتتقبلش".
كان المجلس الأعلى للقوَّات المسلّحة شريكًا متعبًا وغير جيد، بقدر نجاحه في أن يكون خصمًا قَاسيًا ومتجاوزًا، تحلَّى بقدر من المراهقة التي لا تليق بالجنرالات، إلى الحد الذي جعله - نكاية في أعواد الثورة الخضراء - يفاوض ويقتسم حصاد أرواحنا ونتاج ما زرعت أيدينا وروت دماؤنا، مع تنظيم راديكاليٍّ مُحكَمٍ مثله، يتمتع بطابع "هيراركي" لا يختلف كثيرًا عن النسق البنيويِّ للجيش، وكان هذا أدعى للصِّدام لا التوافق، صفْقة ملغومةٌ تحمل في طيَّاتها نُذر الاختلاف والصِّدام وتصارع الإِرادات، وهو ما حدث لاحقًا، إذ لم يكن من النضج الوطنيِّ والعسكريِّ معاقبة الثورة حين أشاحت بوجهها عن السترة المموّهة، بأن يرتمي الجيش كاملاً، بالدولة والحكومة والثورة أيضًا، في أحضان اليمين المتطَرِّف، إصلاحي المعنى وشمولي المبنى، الذي لا يؤمن بالمحدّدات الوطنية ولا بفكرة القومية الجغرافية أو العرقية، وعلَى فراش الامبرياليَّة الأمريكيَّة والصهيونيَّة، التي راقها الاتفاق وضمن لها مساحة من التفخيخ الداخلي للمشروع التحرّري والنهضوي المصري، ومنذ أن تمَّ تحبير الاتفاق وتأطير الصَّفقة، لم يكن غريبًا عسف وقمع اليد الرسمية المُسلّحة الغليظة، عبر وحدات رسمية وجنود مدرّبين، بالعزف الرائق لسيمفونيَّة الثورة والجمال والبهاء الطالعة من سنوات القهر، والمتصاعدة في شوارع وميادين مصر، ولا غريبًا أيضًا تصفيق اليد المتوضئة لإمامها القائد إلي المجد والغاية، الجيوش بطبعها لا تحتمل الاختلاف، واليمين الديني المتطَرِّف أيضًا، وحين يجد المستبدّ شريكًا مُتواطئًا وداعمًا، كجماعة دينية تذبح الله يوميًّا على طاولة المكاسب والصفقات، وتحمل على كاهلها تاريخًا وواقعًا غير نظيفين، تصبح كُلفة المهمة أقلّ من كلفة الحوار والجدل والملاكمة العقلية والفكرية، وأبسط من احتمال الغيظ جرَّاء ممارسات القتيل.
"بسم الحياة
والحزن
والجيش القُدس
يا مصر
أَشْهَد أنَّ لا أبطال إلاَّ في القِصَصَ
وفي التاريخ
وفي السَّمَا
يا أهل العَمَى
لِمّوا العَمَى
من بين عنين الجيش
حامِي الحمى
لو عقله مال
وبقاله مال
بيمَيِّل الأحوال.. وما بيحميش
والشاهد الأخرس ما هوش كدّاب
لكن بيشوف
وما بيحكيش
فانطَق يا جيش
فَتّح يا جيش
شعب الصليب مش إسرائيل
والجبهة مش ع النيل
ولا الكورنيش
فتّح يا جيش
بنلَبسك ونأكِّلك
وبنشتريلك أسلِحة
علشان نعيش
فتح يا جيش
البدلَة نَدلَة
والنجوم
هييجي يوم وتنام
وأولاد الحرام
لمَّا الحلال يتقام
هيلبسوا اللِجام
ويشبعوا.. تلطيش
فتح يا جيش
عاش الملك
مات الملك
ف كُلّ حال ما إنتش بديل
فبلاش تكون مملوك
"لحلم مُستحيل"
عساكر الشطرنج ما بيبقوش ملوك
لكن بيحكموا
ويحتموا
ويقتلوا بأوامر الملوك
فانْ برَّأوك من دمّ "عيسى"
- يا "بيلاطُس" -
باللاهوت وبالكنيسة
فالضماير الخسيسة والتعيسة مش بريئة
في الحقيقة
كلمة الظابط بتقتل
قبل كرباج الشاويش
فتح يا جيش
الهجرة بعد الفَتح ضعف وْمَسْخَرَة
بالذات
لو الهجرة لْطُرَة
وإذا الحياة
بتمشي زِجزَاج فالتاريخ
بالمَسْطَرَة
واللعنة شمس مْنَوَّرَة
مابتنطفيش
فتح يا جيش
كُلّ إللي غَمّوا عنيهم اتغَمّوا
فماتوا مكسورين
فَتح...
تـعــيـــــــش.
إذا اختزلنا الحياةَ، ورددنا تعريفها إلى الوحدة الأوَّليَّة من العمليَّات البيولوجيَّة والأيكولوجية، سنجد أن الجيش عاش - وهو غير قابل للموت من الأَساس - وكذلك عاش اليمين المتطرِّف، رغم ما تواجهه بعض أطرافه من محن آنية، بعضها من الغباء وأكثرها من اليقينية والتسلّط، وأيضًا عاش القطاع الأكبر من الثوَّار، وإن كان لنا شهداء أكبر من مكاسب الحكام وخسائر المحكومين، وما زال مندوبونا فى سجون "الثورة" ينفقون أنفاسًا وأرواحًا وأيّامًا غضّة خضراء، تمتدّ لما يقرب من ألفي يوم وعدّة وجوه من الحكام وشبكات من المصالح المختلفة التي سكنت قصر الحكم، ولكن وسط كل صور الحياة المترددة في صدور ودواخل شتّى أضحت الثورة نفسها في طور الموت الإكلينيكيِّ.
للمُصارحة نكهة الصبار في فم من اعتبر نفسه أَبًا وابنًا للحلم، ولكن دونها تظلّ الأبوَّة والبنوَّة في إطار بيولوجيٍّ ماديٍّ وحسب، تغيب عنه المشاعر والتفاصيل الإنسانيَّة، رُبما لم تكن الثورة لديَّ - منذ بدئها وحتى قبل اشتعلا شرارتها - غاية في ذاتها، كانت هدفًا استراتيجيًّا لا مناص من أن تجبرنا الواقعيّة، ويجبرنا التعاطي مع السياق الوطنيِّ والمنطق السياسيِّ، على تحوِيله - في مرحلة ما - إلى هدف تكتيكيٍّ يستنفد غرض وجوده، الغائيّ والتخييليّ، بتحقُّقه الماديّ.
جُررنا إلى مرحلة التعديل الاصطلاحيِّ في التعامل مع الثورة، وفق جدول زمنيٍّ وضعه آخرون، ذهابٌ إلى حيث لا نريد ولا نستطيع الاعتراض، ولكنَّنا بسبق إِصرار، وبإرادةٍ فرديَّة، تخلّينا عن وجه ثورتنا المشرق، وأقوى أدواتها ومعاولها لهدم وإعادة تشكيل وجه الوطن، تحلَّلت الثورة من إبداعها وانغمست في رداءة الواقع، بآلياته وتقنيات عمله غير المبدعة وغير الجميلة.
قراءتي للعام - عبر السياق الخاص - تجبرني على إبداء تخوُّفي من الرَّاهن ثوريًّا وسياسيًّا، واكبت الثورة منذ بدايتها بالشِّعر - رغم حدّته وانكشافه وفائضه الديماجوجيِّ - ولكنَّه كان سلاحًا ناجعًا، يحفظ لي، ولآلاف غيري، الهندام النفسي والتوازن الشخصيَّ والروحي، وأراه - وتجارب الآخرين في الكتابة والرسم والغناء والموسيقى - يخلخل دفاعات الخصم، لأنَّ قانون القوَّة الذي اعتمده، لا يحمل بين طيَّاته أَداة ردع لانطلاق الرُّوح، واندلاع نيران الخيال.
كان الإِبداع والفن قُبالة النظام السَّابق على الثورة، والأنظمة اللاحقة لها، سُفورًا وفضحًا وسخرية، وهو الآن - بالنِّسبة للنظام المُقوِّض للثورة بصبغة شمولية نصف ميتافيزيقية - يُمثّل عصىً أغلظ ممَّا كان عليه سابقًا، لأنه يصطدم ثقافيًّا ومعرفيًّا مع ثقافة محافظة، ورؤى أُحاديَّة مُتكلِّسة، تحتفي بمنطق القطيع، وآليات الحشد وتأطير الوعي الجمعيِّ، بينما التحوُّل الديمقراطيُّ الحقيقيُّ يبدأُ من ديمقراطيَّة الإبداع، لا من ديمقراطيَّة الصندوق، حينما يصبح كلُّ صوت انتخابيٍّ صوتًا إبداعيًّا - بالإنتاج والمُمارسة أو بالتلقِّي والمغايرة - تصبح الثورة الدائمة واقعًا، وتستمدّ الهُويَّة الوطنيَّة قوَّتها من ليونتها وديناميكيَّتها، وأمام استمرار المثيرات الأولى التي قادتنا إلى 25 يناير، وقدرتها على مقاومة طاقة التغيير، وعلى الاستمرار مع نظام مؤقت ثم رئيس منتخب ثم رئيس مؤقت فرئيس دائم، وتصاعد موجات البلطجة الرسميَّة الخارجة على أُطر مؤسَّسات القمع القانونيَّة، والاصطياد الليليّ، والاختفاء القسري، والمحاكمات الجائرة، والسَّعي لتحويل الخلافات السياسيَّة والفكريَّة لخلافات جنائيَّة وشخصيَّة وبدنيَّة، نجد أنفسنا أمام أسئلة تفرض علينا اختراع إجابات حالّة ومُلحّة وعملية لإِعادة تصحيح مساراتنا الذاتيَّة.
المؤكّد أن بإمكاننا الانجراف - بسهولة واندفاع - إلى الدائرة ذاتها من التعامل الحيوانيِّ غير المُؤسَّس على رُؤى إنسانيَّة أو قانونية أو قيميّة، والراهن الاستاتيكي بمآخذاته وهناته يدفع بقوة مطّردة لهذا، ولكن يمكننا أيضًا التثبّت والهدوء والعمل الناعم الدؤوب لاستعادة جذوة إبداعنا الثوريِّ والإِنسانيِّ بالسهولة ذاتها، وأرى الخيار الثاني أكثر مَضَاءً وقدرة على قضِّ مضاجع السُّلطة وحلفائها - وخصوصًا المُتّشحين منهم بأردية عقديّة ميتافيزيقية، أو بأردية سلطوية شمولية - وإثارة مكامن خوفهم.
شخصيًّا، أصبحت قلقًا على اختياراتي القادمة، وأنتظر أن يصالحني الشِّعْر الذي خاصمني، مُنذ أن نجح الخصوم في جرّنا إلى دائرتهم وفرض قواعد لعبتهم علينا، ومنذ فرض اليمين المتطرِّف نكهةً "بترورمليَّة" على الواقع المصريِّ، وذهبت المنظومة الشمولية العسكريتارية مذهبه، ويبدو أننا قد نظل في أسر هذه الصورة طويلاً، عيوننا معلّقة في السماء، وأيدينا معقودة خلف ظهورنا، وألسنتنا مكبلة بالخرس الإجباري ومسجونة في أفواه مليئة بالرمل والبارود والحنظل، أكل آباؤنا الحُصْرُمَ فَضَرسنا، وأتمنَّى ألاَّ يَضْرس أبناؤنا.