الآن، في ساعة متأخرة من الليل، أكتب إليك يا حبيبتي، متخفّيًا خلف مفردات باردة ومحايدة، وفاردًا غلالة حريرية على ما أودُّ قوله، منتصرًا لما يمكن قوله، أو ما يقبل الآخرون قراءته، وفي الليل فسحة لارتداء أقنعة أكثر مخاتلة، وفي الليل قد يُحسِن المرصود تضييع العَسَس.
في سؤال المحبة بين لسانين/ جسدين عربيين، يتداخل المرغوب بالمرهوب، وكأن هذا الحيّز من الجغرافيا واللغة يكره الإفصاح، ويستشعر خطرًا وجوديًّا في التئام نصفين فرّقهما الله على موعدة اللقاء وحلاوة الوصل، نصفين ماديين أو معنويين، لهذا نمارس إنسانيتنا على حرف من النقص والرغبة المكبوتة، ويمارسنا الاحتياج والعوز كلّما لمع قمر في عين محب أو محبوب.
انطلاقًا من المذكر والمؤنث، من الأنا والآخر، من الثنائية الحدّية في اللغة والنوع والعقيدة والجغرافيا، كثيرًا ما نغلق أفواهنا على كلام مباح، ونصادر أرواحنا الرقراقة بسيف الممنوع المخاتل، وتنسحب العلّة لتسيطر على كامل المعجم والمواقف والانحيازات والأفكار والممارسات اليومية.
ربما تكمن العلّة في غرام الثقافة العربية، والتقعيد لهذا الغرام لغويًّا وفكريّا، بالتقابلات الحادة والثنائيات المتصادمة في شكلها الأحادي البسيط، فعبر مسيرة "زمكانية" طويلة توزّعت العيون بين الأصفر والأخضر، وعلى شرف الرمل يحضر الماء كفعل أبيض ومترع بالخير، وفي الوقت ذاته يخبئ السواد والشر في أعطافه، مثيرًا شهوة الصراع والحرب والقتل في نفوس الرمليين المتطلعين لليناعة والاخضرار.
من هذا المنطلق البدائي، رسمت هذه المساحة الجغرافية حدود وجودها الدرامي، إما وفرة أو جدبًا، استئثارا بالعطيّة أو صراعًا وحربًا، أبيض أو أسود، ومنه أيضًا وُضِعت الأفكار على طاولة الرؤى المركزية، فتصارعت النصوص والتأويلات والنوازع والتطلّعات، ظلّت المرأة في خبائها جمرة مشتعلة في عين الرجل في عرائه، ارتقى الحاكم دَرَجًا من جثث المحكومين ثم قتلهم ليغلق بوابة الترقّي في وجوه اللاحقين، انتزع الفقيه إزار السائل ليعتمر قبّعته الزاهية المقدسة، وشحذ المقاتل سيفه من عظام الباحثين عن الحماية والأمان، صورة أحادية لا تقبل الجدل والمحاورة، ولا تترك مدخلاً للنقض، أو النقد، أو القراءة المغايرة، ناهيك عن فكرة الكتابة وإعادة الصياغة.
وأمام الشجار التبسيطي المزدوج، تنمو رغبة التفرّد والهيمنة على الفضاء العام، وتتراجع الكُلفة المتوقعة إزاء صراع بسيط مع خصم وحيد، لذا كان سهلاً أن ينتصر فريق لرؤيته، لنصّه، ليضعنا على الطريق المرسومة بالقوة أو اليقين الشوّاف، أمام الدين الواحد، ونظام الحكم الواحد، والفكرة الواحدة، والأنثى واللغة والبلد والإبداع والجمال والعلاقة والعداوة والحب والهدف والوفاق والشقاق ذوي التعريفات الدوجمائية الواحدة.
تُرى منذ متى ونحن في أسر هذه الصورة الأحادية؟ هل بدأ الأمر بفرض صيغة دينية واحدة على المنطقة؟ أم بدأ بفرض صيغة عرقية ولسان وثقافة دعمها جيش الميتافيزيقيا وجيوش الفرسان والراجلين المدجّجين بالآيات والسلاح وشرف النسب؟ أم لعبت الوفرة المالية لعبتها في تصدير الثقافة ورشقها في دواخل أناس غير ناسها؟ البحث التاريخي والسوسيولوجي عن إجابة شافية لهذا المأزق التاريخي العابر للمكان والزمان على الخارطة العربية ربما لا يُفضي لشيء، قُتِل مالك بن نويرة تحت راية الصراع وانتصار نص على نص، وقُتل عثمان بن عفان تحت الراية نفسها، وماعز بن مالك وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين وأبو منصور الحلاج وعبد الله ابن المقفع والأمين بن هارون الرشيد وشجر الدر وسيف الدين قطز وقنصوة الغوري وحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وفيصل بن عبد العزيز آل سعود وبيار الجميّل وفرج فودة ورفيق الحريري وسمير قصير، ومئات غيرهم من مشارب ودروب واهتمامات شتّى، تحت رايات تتشابه أو تختلف، ولكنها رايات صراعات نصّية بالأساس، وانطلاق من مركزيات ورؤى أحادية لا تحفظ لله حكمته في اختلاف موجوداته وتمايزهم، لا تهتم بالممارسة العاقلة والقيمية للنص، أو بالخروج السافر والعنيف على نصوص الآخرين، ولا تحوز أيٌّ منها حصة حاكمة ومرجّحة من اليقين والصحة، وسط حروب وشجارات وتداخلات النصوص المسحوبة على اليقين المطلق.
الاقتراب من غابة النصوص المتصارعة في الوعي العربي، الديني والفكري والسياسي والاجتماعي، يزيد الصورة غموضًا والتباسًا حول فكرة النص ومحدّداته، فالرائحة والصورة والصوت والملمس والعلاقات الإنسانية والهيراركي الاجتماعي والسلطوي كلها نصوص، باعتبارها منظومة من العلامات والرموز والدلالات، ولكل نصّ قداسته التي تظلّل المساحة الرابطة بينه وبين منتجيه ومتلقّيه، نتوهّم كثيرًا أنها صفة ذاتية ملازمة للنصّ في جوهره، أينما حلّ تحلّ، ونزيد بالافتئات على الواقعين خارج النص وبعيدًا عن مجاله ومدى سلطته؛ لإجبارهم على تقديسه، بينما قداسة النص تخصّ متلقيه وليست حقيقة قارّة في جوهره، ولو كانت صفة ذاتية دائمة لانسحبت القداسة على الموجودات المحيطة بالنص بمجرد مخالطتها له أو مقاربته لها، بمعنى أن تحكي عن حبيبتك لصديقك فيحبّها، أو تسمع الترانيم المسيحية فتقعي على الهيكل وتشعل شمعة، أو ترى بقرة هندوسية سمينة فتركع وتمر من بين أرجلها، أو تقرأ القرآن على هندي أو صيني في آخر الأرض فيبكي وينطق الشهادة.
القداسة حجم ما نراه في النص، أو نتوهّمه فيه وحسب، لا صوت ولا صورة ولا إحساس ولا منطوق له قداسة إلا من ذواتنا، إن انخلع منّا أو انخلعنا منه أصبح عاديًّا مبتذلاً ووحيدًا، لا شيعة له ولا أتباع، الحب كنصّ، والكره كنصّ، واللقاء والفراق والخير والشر والشعر والسرد والتشكيل والموسيقى والتشخيص والتوراة والإنجيل والقرآن والحاكم والمحكوم والسيف والوردة كنصوص، كلها مقدّسة بقدر ما تسمح لنا رؤانا وتجرّنا خلفها، ودفعك الدائم لإلزام الواقعين خارج نصّك بالتسليم بحجم تقديسك له مراهقة وسذاجة، لأنها تحاول تعبئة النهر الهادر في كوبك المحدود، وتضرب نصّك في صميم قداسته الحقيقية التى تخصّك، إذ لا يحتاج أي نص عظيم لأن يظل عظيمًا إلا لمؤمن واحد، صادق وعميق في إيمانه، والدفاع انتقاص من الإيمان، والهجوم إهدار لطاقة بوسعك الاتكاء عليها لتزكية النص وترقية الروح، ومن هذه الزاوية يمكنك أن تصنع أسطورة من حبيبة أو قصيدة أو قطعة موسيقى أو باقة ورد أو لوحة أو آية أو أيديولوجيا أو نظام حكم، لأنك آمنت وأخلصت في إيمانك وحدك، فالله على جبروته ما زال وحيدًا، وفي اندغامك في نصّك وإخلاصك له لا يمكن أن يسلبك أحد إيمانك وتقديسك وقداستك بمجرد أن ينسحب من النص، حتى ولو كان النص نفسه، حتى ولو كانت الحبيبة أو القصيدة أو الموسيقى أو الألوان أو الآيات أو الأديان أو الحاكم أو اللغة أو السيف أو كرسي العرش.
من هنا فقط، ومن وفرة لديّ في الإيمان يا حبيبتي، أحملك نصًّا يخصّ العالم، مبنى ومعنى وروحًا وبدنا، وأتورّط فيه وحدي، لا يشغلني أن أثبت استثنائيتك وصفاء مائك لأحد، ولا أرشق سهامي في عيون الناس لأن لديهم حبيبات أخريات، ولأنهم يرون حبيباتهم أكثر جمالاً منكِ، فإذا أشرَقَتْ على أذنيك مغازلةُ حبيب لمحبوبته بأنها أرق المعشوقات وأجمل الحوريات في كوكب الله، فثِقي أن نصًّا موازيًا لحضورك في هذا العالم قد وجد مؤمِنَه، ليس أكثر، وأنه يتحدث عن انعكاس الصورة في ماء عينه، لا عن جوهر الصورة وحقيقتها، لا حبيبته ولا أنت اختزال للجوهر أو تكثيف لليقين ومنتهى صنعة الله، فلا تحملي قراءة عيني لوجهك، أو ترتيل لساني لآيتك، شهادة في وجه العالم على فرادة الحضور ووحدانية النص، فمن ماء عيني أعبّئ كأسك، ومن ماء عينك تنطفئ شهوة عطشي وحدي، فأقرّ بقداسة إطلالتك وبإجلال تجلّيك، ولا أُتوّجُك التماعًا في عيون الناس ولا نصًّا فوق نصوصهم.
المحبّة العاقلة رمانة العالم وميزانه، محبة الله الحقّة تقتضي إجلال آلهة الناس، ومحبة الجمال مشروطة برؤية القبح في سياق واعٍ، دون تفريط ولا إفراط، وحفظ حق العيون الأخرى في اختيار أيقونات جمالها الخاص كما تحب، ومحبّتك أنت - يا حبيبتي - شرط صدقها وجدارتها بمواجهة العالم، أن تصون قلوب العشاق والمعشوقات في الحدائق والمقاهي المجاورة، وألا نكون ازدواجيين، فنحتفظ بقداستنا بينما نفضّ بكارة القداسات الجارة والشريكة في هواء العالم، ونتوغل في رومانسيتنا بدهشة وتناقض.
بعيدًا عنكِ وعنّي، المفارقة المدهشة والعابرة لمفاصل الواقع المتراكبة والمتبدّلة من زمن لزمن ومن سياق لآخر، تكشف عن عطيّتها الأبرز في إدمان التورّط المذهل، وبالغ الاقتناع والإخلاص، في خطاب ازدواجي متناقض، وإقرار الخارطة العربية وناسها للأفعال بينما يشهرون سيوفهم في وجوه الأقوال وقائليها، ولهذا لا عجب أن نجد قبولاً وإقرارًا للتورّط في رداءة الواقع، قبولاً ومعايشة ومشاركة، ورفضًا للاشتباك معه إبداعًا وتخييلاً ونقدًا وتفنيدًا، التورّط في معجم تداولي ساخن وركيك وبذيء، ورفض تدوينه والإشارة إليه بالحرف والرسم والطباعة والتداول، الاحتفاء بالمواطن ناخبًا أمام صندوق، ولو قال "لا" ورفض النظام الملائكي والزعيم الملهَم، ومطاردته كاتبًا وناقدًا وباحثًا ومفكّرًا وخصمًا سياسيًّا، بسبب الخطاب ذاته، أو الاستعانة بالله والعقيدة والنص في سوق التوظيف البراجماتي للدين، وحبسهم عن عقول الناس وأفهامهم وألسنتهم، في مقام الممارسة والعقلنة والاقتراب الخلاّق، كمقدّس يعزّ على التداول وكهنوت لا يتأتّى لعاديّ أن يجتَرِح حِمَاه.
التجلّي الأكثر فداحة لهذا الخطاب الازدواجي أن نغض الطرف عن فقر وجهل ومرض، وعن إهانة للآدمية وانتقاص للحقوق، بينما نثور على خطاب زاعق وحاد ومواجه، يخمش وجه السلطة أو يبعثر حروف النص المستخدَم في الإجهاز على إنسانية الناس، التجلّي الأكثر وقاحة أن نتعايش مع القبح ونقتات عليه، ثم ننفق طاقتنا في رجم من يهجو القبح ويمتدح الجمال، أو نُجِلّ فقهاء السلاطين وهم ينتعلون النص والعقيدة والمعتقدين، ونحطّ ممن يحاور القلب بالعقل ويرفع صوته ليبثّ هموم الواقعي في وعى الغيبي، والتجلّي الأكثر وقاحة لهذا الخطاب أن يمتلئ عالمنا بمن يوقّرون ابتذال النص ويهينون عصمته والسموّ به، هؤلاء الذين لا غضاضة لديهم في أن يعتدوا على أنثى في شارع وسيع، أو يشهدوا على اعتداء شبيه، بينما لا يقبلون الاحتفاء بها في مجالهم العام، أو بوضوح أكبر، يمكنني أن أضربك في حضرة العالم يا حبيبتي، وسترمقني عيون عربية كثيرة بالتقدير والغبطة، ولكن ليس بوسعي أن أحتضنك أو أُقبّلك أمامهم، على امتداد المساحة الأكبر من الخارطة والعواصم العربية، ليس بوسعي الاحتماء بحضنك أو طبع قبلة على صفحة وجهك المقدّسة، ولا يمكنني أن أثبت إيماني بك أمامهم، لأن في ذلك جرحًا لإيمانهم وهتكًا لقداسة نصوصهم المعيارية التي يرون العالم والناس والدراما والحقائق من مناظيرها.
الآن يا حبيبتي، وبعد هذه المطوّلة من حكاية الغريب والغامض والمتداخل، لعلّك تتسائلين عن علاقتك بكل هذه الهواجس والعبارات الرنانة والمغلقة، لا علاقة إلا أنت وأنا، الأمور كلها تبدأ من محبّتنا وتنتهي إليها، ليس بوسعي أن أحبّك ولساني معقود وأخيلتي مقيّدة وخطواتي منذورة لدروب وسكك لا أحبّها ولا أرتاح إليها، لهذا أكتب إليكِ في الليل، ليل الوقت، وليل اللغة، وليل المواقف والانحيازات والآراء والأفكار، فالليل ليس استدعائي للقمر في شبّاك غرفتي أو على طاولة نقتسمها أنا وأنت وحسب، في الليل يمكنني المراوحة بين البسيط والمعقّد، الواضح والغامض، الداعم والناقض، اللغة الرومانسية والفلسفة الطاعنة في التأصيل والتفكيك، يمكنني أن أمارس حريّتي بمحبّة وخوف، بإيمان وشكّ، بإجابة وسؤال وآخذ وردّ وانكشاف وعُري واحتجاب، أكتب في الليل وما من فرصة سواها لأن أشقّ قلبي وأكشف عن خبيئته، فهل تسألين عن خبيئة القلب يا امرأة القلب؟ أحببت أن أمتدح الحرية فكنتِ عنوانًا حاضرًا رغمًا عني، وأن أهجو القمع والمصادرة فكان خوفي على اتّصالنا ووجودنا على صفحة هذا العالم أبرز ما يحدوني في هجائي، آلمني أن يقبع شاعر قطري في السجون لقاء قصيدة، أو يواجه شاعر فلسطيني سعودي حكمًا بالإعدام لقاء ديوان، أو تزج مجموعة قصصية بشاب مصري خلف القضبان، وأن يُشهر المحتسبون سيوفهم في وجه شاعرة وكاتبة صحافية مصرية لرأى أو موقف أو انحياز رآه الكهنوتيون انتقاصًا من سلطتهم وقفزًا لسياجهم المُكَهرَب، أو يجرّدوا باحثًا يقيم حكمة الله في العقل ويجلس إلى طاولة مع البخاري والطبري ومتونِنا السالفة من نصّ يقتسمه معهم ويرث فيه قدر ما يرثون، أو تستخدمنا الحياة على هواها وحينما يوثّق روائي مصري "استخدام الحياة" لنا يدفع ثلاث سنوات من عمره في غرفة رمادية عنوانها الموت، الواقع الركيك يتهم الواقعين في أسره بالركاكة، فدعينا نتجاوز معيار الجودة في تقييم الكاتب والمكتوب ما دمنا متورّطين في الرداءة حتى شغاف القلب، وسامحيني لأن ذاكرتي استدعت محمد بن الذيب العجمي، وأشرف فياض، وكرم صابر، وفاطمة ناعوت، وإسلام بحيري وأحمد ناجي، فلم أر منهم في الأسر إلا أنا وأنتِ، ولم أجد متّسعًا لقلبينا إلا بأن نردِّد أسماءهم في لحظات صفائنا الرومانسي، انتصارًا لنصّنا في نصوصهم، ولمحبّتنا في شخوصهم، لهذا جاءت كتابتي لكِ في الليل كما قرأتِ في مطوّلتي، شيء منها عن الحرية والمقموعين، وشيء عن الوصاية وأبناء النصوص العاقلة، وشيء عن حضورنا في العالم وغربتنا عن نصّه، وكلها عنّي وعنكِ، هكذا هي طبيعة الكتابة في الليل، ولعلّك لا تعرفين عذاب أن نكتب في الليل!!
