السبت، 23 نوفمبر 2024 07:26 ص
محمود سعد الدين

محمود سعد الدين

ذكريات أم بـ100 راجل

3/21/2016 9:36:58 AM
ربما من غير اللائق الحديث عن فضل الأم فقط بالتزامن مع الذكرى السنوية للاحتفال بعيد الأم، لأن الربط بين تقدير الابن لأمه، وبين يوم للاحتفال هو تقليل من قيمة الأم فى حياتنا، وليس احتفاء بها.. الأم كانت ولا تزال هى مفتاح الطاقة الإيجابية والراحة النفسية، من صوتها العذب يسكن القلب، ومن نسماتها العطرة نستمد الراحة والهدوء، ومن ردود فعلها التلقائية نعيد ترتيب مفهومنا لمعنى الحب بلا مقابل.. اللهم بارك لنا فى أمهاتنا جميعًا.

الصراحة لست متذكرًا التوقيت، لكنه منذ وقت طويل يقترب من 25 عامًا، قبل أن ألتحق بالمدرسة الابتدائية، بيتنا فى قريتنا الريفية بالطوب اللبن، أعيش وأشقائى فى 3 غرف، من بينها غرفة لاستقبال الضيوف، بينما نحن كنا 11 فردًا، ولكن يسرها المولى عز وجل، ووسط هذا الزحام كان أشقائى لا يملون يوميًا من إعداد واجبات الدراسة المختلفة، كنت أقترب منهم، للعب لا للتعلم، أقصى حدود شغبى هو التحرك فى محيطهم، أو التطفل على أقلامهم، أو حتى التفتيش فى حقائبهم، غير يوم وحيد تطاول بى الأمر، وأشعلت «عود الكبريت» فى بعض الأوراق خلف السرير الخشبى، ووقتها كانت الكارثة «الحق حريقة..»، ولكن الصراحة «مش حريقة قوى يعنى»، سريعًا حضر أشقائى وسيطروا على ألسنة النيران خلف السرير، وبكل شجاعة أقولها كان هذا اليوم «أسود»، الجميع يوجه لى العتاب، وكل بطريقته سواء بالضرب أو حتى بالشتائم من غير ألفاظ، غير أمى التى كانت تهدئ من روع الجميع، و«تطبطب» علىّ، تسكّن من روعى، تمنع الجميع من التجاوز فى حقى، ومن يومها زاد ارتباطى بها، خاصة أننى لم أنم تلك الليلة إلا فى حضنها، وما أجمله.

تعدد إخوتى كان يدفعنى وأنا طفل للتمتمة بسؤال طفولى: «هو أمى بتحبنى أكتر ولا إخواتى.. أنا مش آخر العنقود ولا حتى البكرى ولا الولد الوحيد؟».. لازمنى هذا السؤال حتى كانت ليلة حالكة السواد، انقطعت الكهرباء عن بلدتنا الريفية، وأشعلنا «اللمبة الجاز»، ونظرًا لشقاوتى فى الصغر، تحركت كثيرًا فى محيطها حتى وقعت على «زجاج اللمبة»، فكان أن تعرضت لجرح عميق فى الخد الأيمن، تعالى صوت الصراخ من إخوتى، خاصة أن الدماء كانت تسيل بغزارة، ولم يعرفوا بعد مكان الجرح، هل فى الخد أم فى الرقبة أم ماذا، الكهرباء مقطوعة والدماء تغرق وجهى وملابسى، وقتها كانت أمى تمسكنى بقوة وكأنها تخاف أن أفارقها وأن تكون لحظاتى الأخيرة.. صامتة هى، لكن عينها لم تهدأ من البكاء المتزايد.. حضر والدى- رحمة الله عليه- وبدأ البحث عن دكتور جراح فى الأرياف والنور مقطوع، معادلة ثلاثية صفرية، والصراحة لا أعلم كيف وأين تمت عملية الجراحة والخياطة، لكن ما أعرفه أن أمى كانت تضع يدها على وجهى، تحاول بفطرتها أن توقف نزيف الدماء، تمسح بأطراف ملابسها الدماء ولكن كان النزيف مستمرًا.

أتذكر تلك اللحظات، وأستشعر كما أنا مقصر فى حقها، كما كانت هى لا تهدأ إلا بهدوئى، ولا تطمئن إلا إذا شعرت باطمئنانى، الآن أمى فى نهاية عمرها، ضعفت وتكالب عليها المرض، قل وزنها كثيرًا، لكن زاد حنانها أضعافًا، لا تزال تبادلنى المشاعر الطيبة النقية، لا تزال تنادينى بـ«حودة»، أقول لها أنا كبرت وربنا كرمنى بـ«يونس» و«نوح»، لكنها ما زالت تقف عند «حودة».. دائما «حنينة».. اللهم بارك لنا فى أمهاتنا يا رب.

print