كان الانغلاق والاستعلاء لغة سائدة للجماعة بمصر سيحكم المستقبل على مدى جدية الخطوة التى أقدمت عليها حركة النهضة التونسية بفصل نشاطها الدينى عن نشاطها السياسى، وسيحكم المستقبل ما إذا كانت الحركة تستطيع عبر حزبها أن تحظى بزخم جماهيرى لا يستند على الشعار الدينى، وبعد سنوات طويلة أعطى فيها هذا الشعار سندا قويا لكل قوى الإسلام السياسى فى المنطقة، جعلها طرفا رئيسيا فى معارك كل بلد عربى من أجل التقدم سياسيا واقتصاديا.
فى المؤتمر العاشر للحركة الذى انعقد فى اليومين الماضيين تحدث زعيمها الشيخ راشد الغنوشى فى الافتتاح قائلا: «حريصون على النأى بالدين عن المعارك السياسية، وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن الخصومات السياسية والتوظيف الحزبى لتكون مجمعة لا مفرقة»، وشهد المؤتمر حضورا سياسيا عاليا كان فى مقدمته، رئيس تونس الباجى قائد السبسى، الذى رحب بخطط النهضة فى «القطع مع احتكار الدين»، وقال بوضوح: «النهضة لم تعد حزبا يمثل خطرا على الديمقراطية»، وبالرغم مما قاله الرئيس التونسى إلا أن هناك قوى سياسية تونسية مازالت عند موقفها من العداء للحركة ونهجها، وفى متابعتى للحدث على قنوات فضائية عربية عديدة قامت بتغطية واسعة له، تحدث معارضون تونسيون ينتمون إلى اليسار عن أن «النهضة» تتحمل مسؤولية الاغتيالات التى حدثت أثناء حكمها، وأنه لا يمكن قبولها فى ثوبها السياسى الجديد طالما لم يتم محاسبتها على ذلك.
بين الترحيب وعدم تصديق البعض لهذا التحول يقفز سؤال: «لماذا فعلتها «النهضة» فى تونس، ولم تفعلها جماعة الإخوان فى مصر وكان لها حزب هو الحرية والعدالة»؟ لماذا أصرت الجماعة على أن يكون حزبها ذراعا سياسية لها لا يتحدث فى الشأن السياسى إلا بأمرها، ولا يأخذ قرارا إلا بعد الموافقة منها، مما جعل الجماعة بمكتب إرشادها ومرشدها فوق الجميع؟. لم تعط «الجماعة» فى مصر أى اهتمام لكل الأصوات المطالبة لها بأن تفصل بين ما هو دعوى وما هو سياسى، وتعاملت باستعلاء مع كل هذه الأصوات باعتقاد يصل إلى حد اليقين لديها بأنها هى الصح والآخرون على خطأ، وأن مصدر قوتها لا يكمن فى تجديد خطابها السياسى، وإنما فى كثرة أنصارها دون أى تطور فى رؤيتهم الفكرية.
كان الانغلاق والجمود والاستعلاء لغة سائدة للجماعة بمصر، بينما كانت «النهضة» فى تونس تقف مترقبة بدرجة سمحت لها بأن تستوعب ما يحدث فى مصر، وأهمه أن الجماعة طالما حكمت فلم يعد هناك عذر لها فى عدم تنفيذ ما تعد به، وأنه خطابها السياسى الدينى وهى فى المعارضة لا ينفع وهى فى الحكم، وأن المظلومية التاريخية التى عاشت عليها وحصلت بها على تعاطف قطاعات شعبية لا يمكن أن تواصل بها الحفاظ على شعبيتها وهى فى الحكم، طالما لا تقدم للناس ما ينفعها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. قدمت «الجماعة» فى مصر أغبى خطاب سياسى ولعبت لعبتها التاريخية السيئة بخلط الدين بالسياسة، ولعبت على المشاعر الدينية مما أفرز تناحرات طائفية بين المسلمين والمسيحيين، ومن قلبها خرجت الجماعات التكفيرية ومارست إرهابها البغيض، فكان رفضها شعبيا هو النتيجة الطبيعية المترتبة على ذلك.
وإذا كانت «النهضة التونسية» تنتسب تاريخيا إلى «الإخوان» ولكن بنكهة خاصة بها جعلها تقرر خطوتها التى أقدمت عليها حاليا، فهل سيكون فعلها الحاصل هو طلاق نهائى مع الإخوان كفكرة ونهج وتنظيم؟.
ستضع الممارسات السياسية المقبلة نهج «النهضة» الجديد فى محك الاختبار، وسيكون خوضها لأى انتخابات مقبلة هو نوع من الاختبار لهذا النهج، وإذا عبرت كل ذلك بنجاح سيكون أمامنا نموذج هو إضافة صحيحة للديمقراطية التى نحتاجها فى عالمنا العربى.