قيمته كانت فى نضاله من أجل الحق والعدل والإنسانية
كانت أمريكا تواصل حربها القذرة ضد فيتنام الشمالية والتى بدأتها تدريجيا فى نهاية خمسينيات القرن الماضى بمساندة لحليفتها «فيتنام الجنوبية»، فى الوقت الذى كان الاتحاد السوفيتى والصين يساندان «فيتنام الشمالية»، وبحلول 1965 بدأت واشنطن فى شن الغارات الجوية على فيتنام الشمالية، وأرسلت قوات لها وصل عددهم نحو 550 ألف جندى عام 1968 تمركزوا فى فيتنام الجنوبية ليواصلوا حربهم الوحشية.
فرضت هذه الحرب نفسها على أجندة العالم كله، كما فرضت نفسها على الداخل الأمريكى، حيث تواصلت المظاهرات الرافضة لها، وتزايدت المظاهرات أمام بطولة الفيتناميين فى المقاومة التى كبدت القوات الأمريكية خسائر فادحة، وصلت فى نهاية الحرب «23 يناير 1973» إلى 58 ألف جندى أمريكى.
ألهمت المقاومة الفيتنامية كل أحرار العالم، ومع تكبيد القوات الأمريكية خسائر فادحة كانت الآمال تكبر بهزيمة رمز الاستعمار العالمى، وسجل «كلاى» موقفه الرافض لهذه الحرب برفضه التجنيد، قائلا: «أنا أسود، فلماذا أقتل الصفر؟»، فى إشارة منه إلى الجنس الأصفر الذى ينتمى إليه شرق آسيا ومنهم الفيتناميون.
وبعد سنوات من هذا الحدث، وفى شهر مايو عام 2014، قال فى فيلم «أكبر معارك محمد على» إخراج الإنجليزى ستيفن فريزر: «كانت حرب ظالمة ولا مبرر لها، وليس لدى شىء ضد الفيتنام، ولم يعيرنى أى فيتنامى بالزنجى القذر»، فى إشارة منه إلى العنصرية التى كان يعانى منها داخل بلاده هو وكل السود الأمريكيين، من البيض.
لم يعد النظر لـ«كلاى» مقتصرا على أنه بطل العالم فى الملاكمة، وأنه صاحب الفضل فى جعل هذه اللعبة شعبية بفضل مهارته وشخصيته، وإنما أصبح رمزا لمعركة ضمير، جعلته أقوى، وفى عام 1970 ألغت المحكمة العليا قرار إدانته، وأصدرت حكما جديدا قالت فيه، إن رفضه لأداء الخدمة العسكرية يتماشى مع قناعة ضميره كونه يدين بالإسلام. عاد كلاى من جديد إلى حلبة الملاكمة، لكن التوقعات تضاربت بشأنه، فهناك من راهن على عودته لسابق عهده، وهناك من قال أنه لن يعود، لكنه هو كان يرفع شعار التحدى، وفى عام 1971 لعب مباراته الشهيرة على لقب بطل العالم ضد «فريزر» الذى لم يقهر من قبل، وعلى الحلبة عاد كلاى «يرقص كالفراشة، ويلسع كالنحلة».
قدم كلاى فاصلا من فنونه البديعة، بالرغم من قوة فريزر، وفاز بالنقاط وعاد إلى العرش ملكا يسكن القلوب وعمره 32 عاما، وفى عام 1974 كانت مباراته ضد جورج فورمان المعروفة بـ«مباراة القرن»، فقبلها ذهبت الرهانات إلى أنه سيخسرها لأسباب متعددة، وكان من بينها تقدم سنه فى مقابل صغر سن فورمان، كان كلاى يبلغ من العمر وقتها 32 عاما (مواليد 1942) فى حين كان سن فورمان 25 عاما (مواليد 1949)، وبالرغم من هذا الفرق فى العمر، فإن الذين راهنوا على فوز كلاى اعتمدوا على أنهم أمام بطل لا يكف عن إثارة الدهشة، وتحقيق المعجزات على حلبة الملاكمة، وبهذه الكيفية فإنه سيحقق الفوز.
تابع المصريون وقتها هذه المباراة على شاشات التليفزيون، بعد إنارة معظم القرى بكهرباء السد العالى، وكنت وقتها فى الصف الثانى من المرحلة الإعدادية، وأذكر أن جموع الرجال فى قريتى خرجوا فى جرن فسيح أمام التليفزيون الوحيد فى القرية لمشاهدة المباراة وتشجيع نجمهم المحبوب، وبقدر فرحتهم من فوزه، بقدر حزنهم يوم هزيمته الدرامية أمام «هولمز» عام 1978، حينما قرر فجأة العودة من الاعتزال.
لا أرى أن تعلقنا بـ«كلاى» لأنه مسلم، وأنه سبق له زيارة مصر عام 1965 لمدة 15 يوما، وأحب جمال عبد الناصر الذى التقى به خلال الزيارة، وإنما لأننا كنا نموذجا إنسانيا نادرا، وأن قيمته كانت فى نضاله من أجل الحق والعدل والإنسانية.