جددت القفزة الأخيرة لسعر صرف لدولار أمام الجنيه فى تعاملات السوق السوداء فى الأيام الأخيرة ليصل إلى مستوى تاريخى يتراوح بين 11.90-11.95 للشراء و12.05- 12.10 للبيع، التساؤل حول جدوى وقف نشاط شركات الصرافة، التى تدرك الدولة وتعلم علم اليقين المخالفات التى ترتكبها وتجاوزها لهوامش بيع وشراء العملة الصعبة المسموح بها، متجاهلة قرارات البنك المركزى بشطب حوالى 15 شركة خلال الشهور القليلة الماضية.
وأجر "برلمانى" جولة للتحقق من كيفية وصول الدولار إلى هذه المستويات السعرية غير المسبوقة، واستطلعت بعض شركات الصرافة فى منطقتى الدقى ووسط البلد، وكانت المفاجأة أنها تأكدت أنه يتم تداول العملة الأمريكية بتلك الأسعار، بمخالفة للقانون دون أى التزام بالحدود المصرح بها، فيما أحجمت بعض الشركات عن البيع التعامل مدعية أنه لا يتوافر لديها ما يكفى من العملة الصعبة.
وثمة جدل بين الخبراء حول جدوى إلغاء تراخيص شركات الصرافة فى حل أزمة العملة الصعبة الطاحنة، ففريق يرى أن الإجراءات البوليسية لن تفلح ولن تجدى نفعا، وهو ما ثبت فعليا بعد غلق العديد من الشركات خلال الفترة الماضية، إذ استمرت المضاربات على الدولار، وتنامت رغبة المواطنين فى تحويل مدخراتهم إلى الدولار، وهو ما يعرف بالدولرة، ترقبا لخفض الجنيه رسميا أمام الدولار بناء على تلميحات طارق عامر محافظ البنك المركزى مطلع الشهر الجارى.
ويحمل هذا الفريق محافظ المركزى المسئولية كاملة، مؤكدين أن تصريحاته حول سعر الصرف كانت سببا فى اشتعال المضاربات، وارتفاع الطلب على الدولار.
كان "عامر" دافع فى تصريحات صحفية مطلع يوليو قرار خفض الجنيه، مؤكدا أن دعم العملة المحلية خلال السنوات الخمس الماضية كان "خطأ فادحا"، وأنه سيركز خلال الفترة المقبلة على إنعاش الاقتصاد بدلا من استقرار سعر الصرف.
وقال المركزى إنه لن يستهدف سعرا محددا للعملة المحلية أمام نظيرتها الأمريكية، وهو ما عزز توقعات بنوك الاستثمار بخفض وشيك للجنيه إلى 950 قرشا للدولار قبل نهاية 2016، وكان سببا فى اشتعال الطلب على الدولار ترقبا للخفض المحتمل خلال الأيام الماضية.
على الجانب الآخر، فإن ثمة فريق يرى أن معظم شركات الصرافة ترتكب مخالفات جسيمة تضر بالاقتصاد القومى، ولا يزال غالبية أصحابها يعملون بعقلية "تجار العملة"، مشددين على أن المرحلة الراهنة والظروف الاقتصادية الصعبة التى تمر بها البلاد تقتضى وقف نشاط هذه الشركات أو خلق منافس قوى من خلال السماح للبنوك بتقديم نشاط الصرافة مع تحديد هامش ربح مغرى للمواطنين، وأن تعمل فترات مسائية لتلبية طلب العملاء، بالتزامن مع تغليظ العقوبات على المخالفين.
ويبدو أن محافظ المركزى قد وضع نفسه فى مأزق لن يستطيع الخروج منه دون إجراءات عنيفة من المتوقع أن تهز سوق الصرف، وهو ما تترقبه الأسواق خلال الأيام القليلة المقبلة.
وأكد الدكتور مدحت نافع، الخبير الاقتصادى وأستاذ التمويل، أن إغلاق شركات الصرافة لا يعد حلا لأزمة سوق الصرف، مشددا على أن الأبواب الخلفية لشركات الصرافة تعمل بكثافة أكبر لدى غلق أبوابها الرسمية وعملها فى الظاهر أو الباطن لا يخلق الأزمة لكنه محاولة للتربّح منها.
وأردف نافع قائلا فى تصريحات لـ"برلمانى": "نضرب مثلاً بقرية فقيرة ليس فيها مستشفى ولا طبيب فهل القبض على حَلَّاق الصحة يقضى على أمراض القرية؟".
الحل من وجهة نظر "نافع" يكمن فى توفير النقد الأجنبى عبر قنواته الطبيعية ورسم خريطة كاملة للعقبات والمضايقات التى تمنع تدفق الدولار عبر تلك القنوات.
وطرح أستاذ التمويل عدة تساؤلات استعرض خلالها أهم أسباب تراجع موارد البلاد من العملة الصعبة، قائلا: "هل طريقة التعامل مع السائح فى مطار القاهرة جاذبة للسياحة، وهى المصدر الآمن للنقد الأجنبى؟ وهل طريقة منح تراخيص الاستثمار تسمح بجذب استثمارات أجنبية مباشرة؟"، مشددا على أن هذه أمور من المفترض أنه يسهل التعامل معها سريعاً وتقع مسئوليتها فى صميم نطاق عمل الدولة. وأضاف أن هناك ثمة حلول إسعافية مثل تقاضى المبالغ المستردة فى قضايا التصالح فى نهب المال العام (بما أنها صارت مقننة) بالدولار واليورو خاصة أن المال العام كان يتم تهريبه بانتظام فى حسابات بالنقد الأجنبى فى الخارج، ثم تأتى الحلول متوسطة وطويلة الأجل فى تحسين حالة المرور والأمن والإنتاج بغرض التصدير والإحلال محل الواردات مع الاستمرار فى مكافحة هدر واستنزاف الموارد عبر الفساد والإهمال.
وتوقع نافع أن يضطر محافظ المركزى إلى تخفيض قيمة الجنيه لأن الفجوة بين سعرى السوق الرسمية والموازية فى اتساع منتظم بغير تصرّف ملموس، وهو ما أدى إلى خسائر صافية للمتعاملين بالسعر الرسمى، ومكاسب غير مبررة للسوق السوداء.
وعزا نافع القفزات الأخيرة فى سعر الدولار إلى تصريحات طارق عامر، مؤكدا أنها ما أن صدرت من محافظ البنك المركزى، حتى جاء ضررها أشد من نفعها، فإن كان ثمة نفع من تكبيد المضاربين بعض الخسائر قصيرة الأجل جدا لكنهم سرعان ما عوضوا خسائرهم وبقوة.
وتابع: "المحافظ فى مأزق ويحاول التعامل مع الموقف بأدوات نفسية لأن الأدوات النقدية مستنفدة والاقتصاد الحقيقى يحتاج إلى دفعة".
وتكافح حكومة المهندس شريف إسماعيل لتدبير سيولة دولارية لتعزيز أرصدة الاحتياطى النقدى واحتواء أزمة العملة التى دفعت الحكومة للتوسع فى الاقتراض من الخارج فى الآونة الأخيرة، فى ظل سعيها لتدبير الفجوة التمويلية التى تقدر بـ30 مليار دولار لمدة 3 سنوات، بمتوسط 10 مليارات دولار سنويا.
وتدهورت أرصدة الاحتياطى الأجنبى لدى البنك المركزى على خلال الخمس سنوات الماضية لتصل إلى 17.5 مليار دولار نهاية يونيو الماضى، بالكاد تكفى واردات مصر الأساسية لمدة 3 أشهر فقط، مقارنة بنحو 36 مليار دولار قبل ثورة يناير.
وتفاقمت أزمة العملة خلال الأشهر الماضية بسبب التراجع الحاد فى إيرادات السياحة إثر حادث انفجار الطائرة الروسية فى أكتوبر الماضى، بالتزامن مع تراجع تحويلات المصريين بالخارج وإيرادات قناة السويس، وزيادة الصادرات على حساب الواردات.
ولا تزال الاستثمارات الأجنبية التى تعد واحدة من أهم مصادر البلاد من العملة الصعبة، هشة وفى حالة من الترقب لتحرير سعر الصرف بما يعكس العرض والطلب الحقيقيين.
وأكد الدكتور فخرى الفقى، أستاذ الاقتصاد والمسئول السابق بصندوق النقد الدولى، أن إغلاق شركات الصرافة، ليس الحل الأمثل للسيطرة على أزمة الدولار وتقليص الفجوة الرهيبة فى سعر الصرف بين السوقين الرسمية والموازية، التى تجاوزت 3 جنيهات، لكنه دعى إلى خلق منافس قوى لها والسماح للبنوك بتأسيس شركات صرافة مع تحديد هامش ربح معقول يرضى العملاء ولا يضر بالاقتصاد الوطنى، لافتا إلى أنه قدم مقترحا بذلك إلى جهة سيادية فى يناير الماضى.
وقال الفقى: "محافظ المركزى ارتكب أخطاء فادحة.. والبنك المركزى بحاجة إلى إدارة اقتصادية".
وأشار إلى أن شطب شركات الصرافة أو إيقافها عن العمل لن يوقف تجارة العملة، لأن أصحاب تلك الشركات يعملون من البيوت ولهم صفحات على مواقع التواصل الاجتماعى، لكن وقف نشاطهم يرفع عنهم الغطاء القانونى ويضعهم تحت طائلة القانون.