كانت الساعة الحادية عشرة صباحا حين نزل وزير الثقافة المصرية ورئيس مجلس إدارة جريدة الأهرام يوسف السباعى من حجرته بفندق هيلتون بالعاصمة القبرصية نيقوسيا، وتوجه إلى قاعة فى الدور الأرضى للفندق لحضور مؤتمر منظمة التضامن الأفرو آسيوى، وكان هو مشاركا فيه بصفته أمين عام المنظمة، وقبل دخوله القاعة توقف أمام منفذ بيع للكتب والصحف مجاورة لها،وفجأة دوت طلقات رصاص وإذا به يقع قتيلا على أثرها يوم18 فبراير، مثل هذا اليوم، عام 1978، وكان عمره ستون عاما وستة شهور، مواليد 17 يونيو 1917، وتخرج من الكلية الحربية عام 1937، وكان حاضرا فى المشهد الثقافى بمصر،برواياته ومناصبه، حيث أسند إليه الرئيس السادات وزارة الثقافة فى مارس 1973، وأصبح نقيبا للصحفيين عام1977.
وقعت هذه الجريمة الإرهابية بعد مرور شهرين و 27 يوما على زيارة الرئيس السادات إلى القدس «19 نوفمبر 1977»، وكان «السباعى»، ضمن الوفد المرافق له، وكان رئيس تحرير جريدة الأهرام، ووسط الغضب العربى من الزيارة تنوعت وسائل التعبير عنه لتشمل، مظاهرات شعبية، وسحب دول عربية لسفرائها من القاهرة، وتهديدها بقطع العلاقات مع مصر، كما هددت منظمات فلسطينية باستهداف كل الشخصيات التى رافقت السادات، وجاءت هذه العملية المفاجئة تنفيذا لهذا التهديد.
فى برنامج «الجريمة السياسية» على فضائية الجزيرة «15 يوليو 2007»، يروى شهود الجريمة وقائعها منذ البداية، يقول حسن شاش السفير المصرى فى قبرص وقتئذ: «لقيت يوسف السباعى مرمى وملطخ بالدم ولقيت إن الفندق فاضى بعد كده عرفت إن الإرهابيين حاطين الناس اللى كانوا فى المؤتمر فى الكافيتريا ومهددينهم بالسلاح، وبعد كده بصيت أخذت يوسف السباعى فى العربية أنا والسائق، افتكرناه لسه عايش، وفى المستشفى فى نيقوسيا، دخلت للدكتور وقلت له أرجوك ده الوزير بتاعنا طلع الرصاصة من مخه، قال لى خلاص هو قضى نحبه خلاص».
نفذ الجريمة إرهابيين وطلبا منحهما طائرة للتوجه بها إلى حيث يريدان، وهددا بقتل المحتجزين فى حال رفض السلطات القبرصية لمطلبهما، ويتذكر الكاتب الروائى إدوارد الخراط: «طلبا منا إن كل واحد يربط يد زميله بالكرافتة بتاعته وخرجنا بهذا الشكل من قاعة الطعام تحت تهديد المسدس والقنبلة إلى أتوبيس أحضروه».
استجابت السلطات القبرصية إلى طلب القاتلين، وتقرر إقلاع الطائرة من مطار لارنكا، بعد أن أطلق القاتلان سراح معظم الرهائن وعددهم نحو ثلاثين، واحتجزوا 11 من بينهم أربعة مصريين، ورفضت ليبيا ثم سوريا استقبال الطائرة، ونزل الطيار اضطراريا فى مطار عدن بجمهورية اليمن الجنوبية «قبل توحيد شطرى اليمن»، لكن سلطات المطار وضعت عوائق على مدارج الطائرة فلم تنزل، فتوجهت إلى جيبوتى، ويتذكر إدوارد الخراط: «نزلنا فى مطار جيبوتى ولم يكن فى الطائرة ما يكفى من وقود إلا دقيقة واحدة»، يضيف: «أنزلونا فى آخر المطار، وتمت مفاوضات شاقة انتهت بالعودة إلى مطار لارنكا بعد موافقة رئاسة الجمهورية القبرصية».
أعلنت منظمة «أبو نضال» من مقرها فى العراق مسؤوليتها عن هذه الجريمة، و«أبو نضال» هو الفلسطينى صبرى البنا المولود فى مايو 1973 وانضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ثم انشق عنها فى عام 1974، وتنقل بين سوريا وليبيا والعراق حتى وجد مقتولا برصاصة فى رأسه صيف عام 2002 بشقته فى العاصمة العراقية بغداد.
أدى إعلان «أبونضال» مسؤوليته عن ارتكاب الجريمة إلى ربطها بالقضية الفلسطينية مما ظهر أثره السلبى فى الجنازة التى أقيمت لدفن «السباعى» يوم 19 فبراير، وكان فى مقدمتها، محمد حسنى مبارك نائب الرئيس السادات، والمشير عبدالغنى الجمسى وزير الدفاع، ويتذكر صلاح عيسى: «استغلت هذه الواقعة للهجوم على الفلسطينيين خاصة من المتطرفين فى الصحافة المصرية، وحد كده سافل طلع فى الجنازة»، وقال: لا فلسطين بعد اليوم، والناس من غضبها رددت هذا الهتاف وراءه، أما الكاتب الفلسطينى عبدالقادر ياسين المقيم فى مصر فيتذكر: أذكر يومها أنهم ألقوا بواحد فلسطينى من المترو فمات، وصارت عملية اعتداء فى المدارس كثيرة، لأن الإعلام المصرى أخذ يحرض بقسوة ضد الفلسطينيين، وهى جاءت على الطبطاب للسادات، فحرم الفلسطينيين من كل حقوق المواطنة التى كانوا يتمتعون بها فى مصر اللى كان عبد الناصر أعطاها إياها عام 1954.
قرر الرئيس السادات الرد على جريمة اغتيال السباعى، فأرسل يوم 19 فبراير طائرة تقل مجموعة من جنود الصاعقة المصرية إلى قبرص، بهدف القبض على القاتلين، وتحرير الرهائن المحتجزين، وتلك قصة درامية أخرى.