وسط ضباب العاصمة لندن برزت أزمة قوية خطفت الأضواء وسيطرت على أحاديث كبار المسئولين، بعد أن تم الإعلان عن القبض على باحث بالبرلمان البريطانى ويُشتبه أنه يعمل لصالح حكومة بكين، الأمر الذى يُنذر بأزمة كبيرة فى العلاقات بين بريطانيا والصين، والتى تواجه بالفعل فتور وتوتر متصاعد، خاصة أنها ليست الواقعة الأولى، وسبقها الإعلان عن حالات تجسس عديدة قامت بها الأجهزة الاستخباراتية الصينية فى لندن.
بدأت القضية مع الإعلان أمس عن توقيف شخصين بتهمة التجسس لصالح الصين، الأول فى منطقة أكسفورد ويعمل باحثًا بالبرلمان البريطانى، والثانى فى إدنبره بموجب قانون "الأسرار الرسمية"، وأكدت الشرطة البريطانية أنه تم القبض على رجلين، أحدهما فى العشرينات من عمره والآخر فى الثلاثينيات، وكما ورد فى صحيفة صنداى تايمز، فإن الباحث كان له صلات بالعديد من النواب المحافظين داخل البرلمان.
ورغم الغموض الذى أحاط القضية فى الساعات الأولى، إلا أن الصحف البريطانية بدأت تكشف عن تفاصيل القضية، حيث قالت صحيفة التايمز أن الباحث اسمه كريس كاش، ويبلغ من العمر 28 عاماً، ونسج على ما يبدو علاقة وثيقة بوزير الأمن البريطانى، توم توغندهات، وقدم له معلومات حول الصين، فضلا عن رئيسة لجنة الشؤون الخارجية فى مجلس العموم، أليسيا كيرنز، ويجرى ضباط من قيادة مكافحة الإرهاب فى شرطة العاصمة، التى تشرف على الجرائم المتعلقة بالتجسس، التحقيق.
كما كان هذا الباحث على صلة بأعضاء فى البرلمان يطلعون على معلومات سرية، وقصد الباحث جامعة جورج واتسون الخاصة، ثم درس التاريخ فى جامعة سانت أندروز، ولاحقا أصبح ناشطًا على الساحة الاجتماعية فى وستمنستر واستخدم موقعًا للمواعدة، وقام بعدة محاولات العام الماضى لترتيب موعد مع صحفيين سياسيين.
القضية التى لم تتكشف كل تفاصيلها بعد أشارت بأصابع الاتهام نحو الصين، ما أثار غضب العديد من النواب لا سيما أن عدد كبير منهم أبدى صراحة وأكثر من مرة إدانته لسجل الصين فى مجال حقوق الإنسان وقد فرضت بكين عقوبات عليهم لذا باتوا يخشون أن يصبحوا أهدافًا لأجهزة الأمن الصينية.
حتى أن إيان دنكان سميث، زعيم حزب المحافظين السابق الذى فرضت عليه الصين عقوبات، أكد أن "الوضع خطير للغاية"، كما اعتبر أن هذا الرجل الذى يُزعم أنه يتجسس نيابة عن الحكومة الصينية تواجد فى المكان الذى يتم فيه اتخاذ القرارات ونقل المعلومات الحساسة.
وفى أول رد فعل رسمى أبلغ رئيس الوزراء البريطانى ريشى سوناك نظيره الصينى، لى تشيانج، رفضه للتدخل "غير المقبول" من قبل الصين فى الديمقراطية البريطانية، وذلك بعد اعتقال باحث برلمانى يشتبه فى تجسسه لصالح بكين.
وقالت صحيفة الاندبندنت، أن سوناك تبادل الحديث مع تشانج على هامش اجتماع مجموعة العشرين فى الهند، حيث أثار رئيس الوزراء البريطانى قضية الباحث البرلمانى الذى كان له صلات بالعديد من كبار أعضاء البرلمان المحافظين.
وبعد الاجتماع، قال سوناك: "أثرت مخاوفنا القوية للغاية بشأن أى تدخل فى ديمقراطيتنا البرلمانية، وهو أمر غير مقبول بشكل واضح".
وأكد متحدث باسم داونينج ستريت، قائلاً: "التقى رئيس الوزراء برئيس الوزراء لى تشيانج ونقل مخاوفه الكبيرة بشأن الديمقراطية البرلمانية فى المملكة المتحدة".
وقال رئيس الوزراء إنه "أثار مجموعة من المخاوف المختلفة التى لدينا فى مجالات الخلاف"، وأضاف: "وفى الواقع، أعتقد أن الشيء الصحيح الذى ينبغى فعله هو اغتنام الفرصة للمشاركة لإثارة المخاوف على وجه التحديد، بدلاً من مجرد الصراخ من الخطوط الجانبية".
فى المقابل، أعربت بكين عن امتعاضها من تلك الاتهامات، معتبرة أنها محض "افتراء خبيث" و"مهزلة سياسية"، وندّد ناطق باسم السفارة الصينية فى لندن بالحديث عن توقيف الشخصين بشبهة "تزويد بلاده بمعلومات استخبارية". وأضاف فى بيان أمس الأحد "الزعم بالاشتباه بأن الصين تقوم بسرقة المعلومات الاستخبارية البريطانية هو أمر مختلق بالكامل وافتراء خبيث".
وفكرة تجسس الصين على المسئولين البريطانيين لا تختفى أبدا، فبين الحين والآخر تظهر اتهامات لبعض الأشخاص أو أجهزة أو تطبيقات باستهداف النواب والمسئولين، وفى يناير العام الماضى حذر فرع الاستخبارات الداخلية (MI5) فى بريطانيا نواب البرلمان والطبقة السياسية فى ويستمنستر من نشاط محامية صينية تُعدّ "عميلة" للحزب الشيوعى الصينى الحاكم.
وأرسل رئيس مجلس العموم، السير ليندسى هويل، إلى جميع نواب البرلمان والعاملين فيه يحذرهم من نشاط المحامية كريستين لى وضرورة الإبلاغ عن أى تعامل معها لمدير أمن ويستمنستر.
وجاء فى تحذير الاستخبارات الداخلية البريطانية أن المحامية لى يشتبه فى أنها "تقوم بنشاط تدخل سياسى" فى المملكة المتحدة وأنها تعمل "بشكل سرّى" للتغطية على مصادر التمويل الذى تقدمه فى شكل تبرعات لحملات النواب ونشاطهم. واعتبر التحذير أنها تتعامل مع إدارة "الجبهة الموحدة للعمل فى الحزب الشيوعى الصينى الحاكم بغرض الترويج لأهداف الحزب والتأثير فى السياسيين فى بريطانيا بهذا الاتجاه".
وأشار التحذير أيضاً إلى أن "لدى السيدة لى علاقات واسعة مع أفراد فى بريطانيا من مختلف الأطياف السياسية، بما فى ذلك عبر المجموعة البرلمانية غير الحزبية للصينيين فى المملكة المتحدة التى تم حلها وأنها قد تسعى إلى تشكيل مجموعة ضغط أخرى للعمل لصالح أهداف الحزب الشيوعى الصينى".
وقال رئيس البرلمان فى رسالته إلى النواب: "يتعيّن أن أوضح أن السيدة لى سهّلت تبرعات مالية لنواب فى البرلمان ومرشحين لمقاعد البرلمان من شخصيات أجنبية فى هونغ وكونغ وفى الصين".
وخلال يوليو الماضى حذر تقرير رسمى صادر عن مجموعة مؤثرة من أعضاء البرلمان البريطانى من أن الحكومات المتعاقبة فشلت فى إدراك حجم التهديد الذى تشكله الصين، مشيراً إلى أن الاستخبارات الصينية تستهدف "بشكل مكثف وقوي" المملكة المتحدة ومصالحها.
ووجه التقرير، الذى لم يمر على صدوره سوى شهران، انتقاداً لاذعاً لتعامل الحكومة "غير الملائم إطلاقاً" لمواجهة التهديد الذى تطرحه الصين، متهماً الحكومة بعدم امتلاكها "لأية استراتيجية" فى مواجهة الأمر، وحذرت اللجنة أيضاً من أن بكين كانت تكتسب السيطرة والنفوذ فى المملكة المتحدة من خلال الاستثمارات المالية، منتقدة الحكومات المتعاقبة لقبولها التمويل الصينى من دون التدقيق الشامل فى الآثار والمخاطر المحتملة التى تنطوى عليها.
وجاء فى التقرير بأن المملكة المتحدة "تشكل هدفاً مهماً للصين عندما يتعلق الأمر بالتجسس والتدخل" مما وضع البلاد فى مركز "يلى مباشرة أبرز أهداف الصين الموجودة على سلم أولوياتها" حول العالم.
وستٌلقى تلك القضية بظلالها على العلاقات ليس بين الصين وبريطانيا فحسب بل بين الصين والغرب بشكل عام، حيث دائما ما تواجه حكومة بكين اتهامات بأن جهاز الاستخبارات الصينى - الذى يعتبر الأكبر فى العالم مع مئات آلاف ضباط الاستخبارات المدنيين - يقوم باستهداف الدول الغربية ومصالحها بشكل شديد وعدوانى.