تبدو القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض، إحدى المحطات المهمة، في إطار "الصمود" الإقليمي في مواجهة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، سواء فيما يتعلق بالعدوان الوحشي على غزة، وما أسفر عنه من سقوط آلاف الضحايا، معظمهم من النساء والأطفال، بالإضافة إلى تأثيرها على مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، في إطار المساعي التي أرستها قمة "القاهرة للسلام"، والتي عملت على توسيع نطاق "البوصلة" الدولية، من مجرد بحث الحالة العدائية الراهنة، والتي تمثل أولوية قصوى، إلى ما هو أبعد من ذلك عبر تعزيز الشرعية الدولية المتمثلة في حل الدولتين، وفي القلب منه تأسيس الدولة الفلسطينية ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو، وعاصمتها القدس الشرقية، خاصة بعد الدعوات المشبوهة التي أطلقتها السلطات في إسرائيل حول تهجير سكان غزة، وما تنم عنه من رغبة في تصفية القضية.
ولعل الحديث عن قمة "القاهرة للسلام"، وما حققته من زخم دولي، عبر تحقيق "توافق" عالمي، حول الثوابت المذكورة، ناهيك عن الحاجة الملحة إلى "التهدئة"، استلهمت منه قمة الرياض أهدافها، عبر تحقيق "إجماع" عربي إسلامي، حول ضرورة "وقف إطلاق النار"، وإبطال ذريعة المدافعين عن دولة الاحتلال حول حقها في "الدفاع عن النفس"، وهو ما يمثل خطوة جديدة على طريق الأزمة الراهنة، بينما ساهمت في تعزيز الثوابت، التي دشنتها الدولة المصرية، سواء فيما يتعلق بحل الدولتين، أو رفض التهجير، وهو ما يقدم حماية للقضية أولا، ثم للإقليم بأسره، في ظل محاولات الدولة العبرية "إعادة تدوير" الفوضى مجددا بعد الاستقرار النسبي الذي تحقق خلال السنوات الماضية، في أعقاب "الربيع العربي".
وفي الواقع تبدو قمة الرياض، ذات النطاق العربي الإسلامي، أحد أهم ثمرات الاستقرار المذكور، والذي تسعى إسرائيل لتقويضه، عبر دعواتها المشبوهة، وهو ما يتجلى في العديد من المشاهد، أبرزها مشاركة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وهو ما يمثل نتيجة مباشرة للتحسن الكبير في العلاقات مع المملكة العربية السعودية، وكذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولقاءاتهما مع الزعماء العرب، في انعكاس لقدرة المنطقة على إعادة صياغة التفاعلات بين دولها، وتحويلها من الطبيعة الصراعية البحتة، نحو ما أسميته في مقال سابق بـ"الشراكة التنافسية"، والتي تقوم في الأساس على تعزيز التعاون بين القوى الرئيسية في الإقليم، حول المصالح المشتركة، لتتوارى خلفها القضايا الخلافية فيما بينهم.
ولو نظرنا إلى القمة التى انعقدت في الرياض، نجد أن ثمة تجسيدا لتلك الحالة، عبر"إجماع" القوى التي هيمن الصراع على علاقاتها بالأمس القريب، حول فلسطين وثوابتها، وإدانة الاحتلال وانتهاكاته في غزة، وهي الحالة التي لعبت مصر الدور الرئيسي في إرسائها، خلال السنوات الماضية، عبر خطوات متواترة، أبرزها تدشين الشراكات الثلاثية، والقابلة للتوسع، لتضع الخصوم معا في عضويتها، وأبرزها الشراكة مع العراق والأردن، وما أثمرت عنه من تدشين مؤتمر بغداد، والذي ضم دولا أخرى، منها إيران وتركيا والإمارات والمملكة العربية السعودية، ليجلس أعضاء الدول "المتصارعة" على مائدة حوار واحدة، في خطوة ساهمت إلى حد كبير في إذابة الجليد المتراكم في العلاقة فيما بينهم، وتنطلق نحو مرحلة جديدة من التعاون.
الأمر نفسه يتجسد في السياسات المصرية ذات الطابع الإنساني، فيما يتعلق بالأزمات الطارئة التي ضربت الدول، التي كانت بين صفوف "الخصوم" قبل سنوات، وهو ما يبدو في الحشد الإقليمي لتقديم المساعدات إلى سوريا وتركيا في أعقاب أزمة الزلزال العنيف الذي ضربهما معا في وقت سابق من هذا العام، لتتحول بوصلة الخلاف، نحو التضامن في إطار إغاثي، لتتحرك المياه الراكدة في العلاقات البينية، وهو ما بدا في النتائج المهمة التي ترتبت على هذا النهج، وعلى رأسها عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية بعد حوالي 12 عام من تجميد عضويتها.
وهنا يمكننا القول بأن القمة العربية الإسلامية في الرياض تمثل درجة جديدة من البناء، سواء على مستوى القضية، عبر إضفاء مزيد من الشرعية للحق الفلسطيني، وإدانة الاحتلال، وهو ما يمثل ضغطا مهما، في إطار الرقعة الجغرافية الواسعة التي يمثلها الاجتماع، بعد التوافق الذي تحقق حول الثوابت في قمة "القاهرة للسلام" من جانب، بينما تعد في الوقت نفسه مؤشرا لحالة من الثبات الإقليمي، في مواجهة أول اختبار صعب في مواجهة المنطقة، بعد الهشاشة التي ألمت بها، في أعقاب "الربيع العربي"، بعد جهود مصرية كبيرة في بناء الاستقرار.