كأنها حُراس تنتصب على أبراج الزمن، لا تدعو المؤمنين فقط إلى بيتهم وصلواتهم؛ إنما تحرس الوقت وتُوقظ المشاعر كلما سرقتها الأيام وتفاصيلها. أجراس الكنائس ظاهرة مُميِّزة للكنائس بامتداد الأرض، ولها تاريخ وتقاليد وحكايات أكبر من قوس الجرس وأبعد من المدى الذى تصل إليه الرنات.
بعض الأجراس يبث الأمل والبهجة، وبعضها يُلهب الحزن، ودائمًا تتردد أصواتها فى مواعيد ثابتة أو طارئة، لكنها صارت علمًا على بيوت المسيح وطقوسها، فأصواتها الفريدة تدعو للصلاة وخدمة القداس منذ قرون إلى اليوم، وقد تبدلت الأحوال والدول والمجتمعات من حولها ولم تتبدل، كأنها حارس أمين على أسوار الاعتقاد، وفى فضاء الوطن.
فى كل مرّة يسمع المؤمنون رنين الأجراس يُدركون أن الوقت قد حان للتوجّه إلى كنيستهم، وهنا تقرع عدّة كنائس إنجيلية وكاثوليكية ولوثرية الجرس 3 مرّات يوميا: السّادسة صباحًا وعند الظّهيرة وفى السّادسة مساء، لتذكير المسيحيين أو للإعلان عن الصلوات، فضلا عن الرنات الطارئة بحسب الأحداث والمناسبات، ولكل حدث نغمته:
رنّة الموت: دقات بطيئة مُتقطّعة تفصلها ثوان، وتُقرَع فى صلوات الأسبوع العظيم، وبمجرد سماعها يعرف المسيحى أن هناك من تُوفّى، وهى رنّات حزينة يملؤها الشجن ولها أثر نفسى يُذكر بنهاية الحياة.
رنّة الفرح: تُقرَع غالبا فى قداس العيد، فهى تُطرب الآذان وتخفق لها القلوب، وتتكون من دقات سريعة متتالية، وعادة ما يُستخدَم فيها أكثر من جرس، لتتداخل الأصوات معًا صانعة النغمة المطلوبة.
رنّة القداس: دقة مُعتادة فى الصلاة، وهى بمثابة منبّه للمسيحيين ليعرفوا أن القداس لن ينتظر أحدا، والتأخير لا يفيد. وتكون الرنة فى بداية القداس الإلهى، وتسبقها رنّة أخرى قبل بدء صلاة السحر.
تؤكد روايات تاريخية عديدة، أن عادة قرع أجراس الكنائس تعود لعام 400 ميلاديا، وتحديدا زمن القديس بولينوس أسقف نولا، الذى خلق رابطا عضويا بين الكنيسة والجرس، وعندما أعلنت الدولة الرومانية فى نهاية القرن الرابع أن المسيحية من ديانات الدولة، استُخدمت الأجراس للإعلان عن بدء الصلاة فى الكاتدرائيات، ثمّ استُخدمت مع انتشار المسيحية وتوسعها كأداة تنبيه للإعلان عن الصلوات فى كل الكنائس.
وكانت أجراس القرنين الرابع والخامس عبارة عن ألواح خشبية أو معدنية يحملها الراهب ويدق عليه بأداة مُلحقة، وما زال هذا الشكل مُستخدما حتى الآن فى الأديرة البيزنطية لإيقاظ الرهبان للصلاة، كما فى دير سانت كاترين بسيناء، وأديرة جبل أثوس باليونان، ودير صيدنايا فى سوريا، إلّا أن البابا سابينيانوس شرّع رسميّا استخدام الأجراس بالعام 604، ثم انتشرت الظاهرة فى أوروبا الشّمالية أوائل العصور الوسطى، بالتزامن مع وصول الإرساليات الأيرلندية.
ورغم الغزو الكهربائى، فما زالت مُعظم الكنائس تحتفظ بأجراسها اليدوية التقليدية، وهى تتطلب مجهودا من خادم الكنيسة لعلّه يُذكر بالعناء والجهد فى الخدمة وطلب الرضا الإلهى، وتتنوع دقات الأجراس بحسب الأجواء والمناسبات، وكان الجرس اليدوى يتطلب حرفية مُعينة فى تحريكه لإصدار الأصوات بحسب المناسبة أو النغمة المطلوبة، أما مع الإجراس الكهربائية فقد صار الأمر أسهل؛ إذ بُرمجت على نغمات ثابتة مُخصصة لكل ظرف أو حدث، وبمجرد سماعها يعرف المسيحى ما يدور فى كنيسته أو ما يقصده قارع الجرس.
وعن تاريخ الأجراس، يقول إسحاق إبراهيم البلوشى، عضو لجنة التاريخ القبطى بالمجمع المقدس، إن أول أجراس الكنيسة كان فى القرن السادس الميلادى على يد الامبراطوار جستنيان، وكان شكله بدائيا ثم تطور إلى قطعة من النحاس أو الحديد تُدَقّ بالخشب، وصولا إلى الصورة اليدوية الشائعة، وهو عبارة عن أسطوانة حديدية بها لسان من الحديد يتحرك مع جذب حبل متصل بالجرس، ثم التطور الأخير مع الأجراس الكهربائية.
وعن تاريخ دخولها إلى مصر، أكد أن الكنيسة القبطية كانت تأتى بالأجراس من اليونان أو روما، وظهر أول مرة فى الكنيسة المرقسية بالأزبكية، وقتما أرسل البابا كيرلس الرابع لشرائها من اليونان، وكانت بداية دق الأجراس بحرية وعلى نطاق واسع مع ولاية محمد على أوائل القرن التاسع عشر، فبدأت منارات الكنائس ترتفع وتزدهر، وصدحت أصوات الكنائس مُنغّمة وموقّعة على شكل ألحان وتيمات متنوعة.
يقول منير حنا، المطران الشرفى لأساقفة إقليم الإسكندرية بالكنيسة الأسقفية، إن الأصل فى اكتشاف الأجراس يرجع للبوق فى العهد القديم، وكان وسيلة جمع المواطنين فى خيمة الاجتماع قبل هيكل سليمان، وقتها كان البوق عبارة عن قرن بقرة أو غزال مُفرغ، ويُصدر أصواته بالنفخ، وتطورت الفكرة إلى أن وصلت للأجراس.
وأضاف أن فكرة الأجراس ربما تكون امتدادا لما كان فى المراكب قبل الميلاد، إذ كان كل مركب به جرس لتجميع المواطنين أيضا، فأساس الفكرة التنبيه، كما هو الأذان فى المساجد.. متابعا: «كانت الأجراس تُضرب وقت الإعلان عن عودة شهداء الوطن فى الحروب، فقُرعت فى 1967 وحرب الاستنزاف وفى أكتوبر 1973، وفى أحداث ووقائع كبيرة تعبيرا عن الحُزن الوطنى، كما قُرعت تهللا وفرحا وقت رجوع الرئيس السادات من القدس بعد مبادرته الجريئة للسلام».