ارتفعت خلال الفترة الماضية الأصوات المطالبة بإصلاح الهيئات الاقتصادية، وذلك بعد أن كشفت تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات بشأن الحسابات الختامية لموازنات الهيئات العامة الاقتصادية والهيئة القومية للإنتاج الحربى للسنة المالية 2022/ 2023، والتى تم مناقشتها دخل أروقة مجلس النواب، خلال الفترة الماضية، أن جملة الحسابات الختامية لموازنات عدد 59 هيئة 3638.7 مليار جنيه، حققت 39 هيئة 192 مليار جنيه أرباح، استحق للخزانة العامة نحو 35.5 مليار جنيه فائض حكومي، فيما تكبدت عدد 16 هيئة خسائر 14.4بقيمة مليار جنيه بنقص 5.5 مليار جنيه، بزيادة 2.1 مليار جنيه، تركزت فى الهيئة الوطنية للإعلام 10.6 مليار جنيه، والهيئة القومية للأنفاق، لافتا إلى تراكم الخسائر المرحلة بتلك الهيئات بنحو 219 مليار جنيه.
فيما حصلت بعض الهيئات على 486 مليار جنيه كمنح وإعانات ومساهمات من الخزانة العامة، منها 452 مليار جنيه منح وإعانات و15 مليار مساهمات، واستحق إيرادات حساب ختامى الموازنة العامة مبالغ جملة 299 مليار جنيه، بالإضافة إلى عدم الاستفادة من بعض الأصول، وعدم سلامة بعض القرارات والتصرفات الإدارية لبعض الهيئات.
وأوصى الجهاز المركزى للمحاسبات بوضع أولويات لأوجه الإنفاق المختلفة وصولا لترشيد الإنفاق العام وما يترتب عليه، فى مواجهة زيادة النفقات لتخفيف الأعباء عن الموازنة العامة للدولة لأقل حد ممكن، وتحصيل الديون المستحقة للحكومة، واتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الزيادة المستمرة فى الدين العام الحكومي، إصلاح الخلل فى هياكل الجهات والهيئات التى تحقق خسائر مما يزيد قدرتها على مواجهة الأعباء.
ووفقا للقانون تنشأ الهيئة العامة الاقتصادية إما بقانون أو قرار جمهورى يبين اسمها ومركزها والغرض الذى أنشئت من أجله وتبعيتها ومجلس إداراتها واللوائح الداخلية التى تنظم أعمالها وغيرها من الأحكام التى تبين كيفية مباشرة الأعمال التى من شأنها تحقيق الغرض الذى أنشئت من أجله.
والهيئات الاقتصادية هى صيغة من الصيغ القانونية لكيانات اقتصادية كان يتعين أن تستقل بالكامل عن الموازنة العامة للدولة وتعمل وفقًا لأسس اقتصادية، وفقًا للقانون رقم 11 لسنة 1979، والذى تم بمقتضاه فصل موازنة هذه الهيئات عن الموازنة العامة للدولة على أن تعد موازنات مستقلة تعتمد من مجلس النواب، بحيث تقتصر العلاقة فيما بينهما على الفائض الذى يئول للخزانة العامة من بعض هذه الهيئات أو توفير ما يتقرر إليها من دعم ومساهمات والتزامات.
لذلك يُعد إجراء تطوير شامل للهيئات الاقتصادية بما فى ذلك التطوير الإدارى والمالي، والاستغلال الأمثل للأصول المملوكة لها وترشيد النفقات وتعزيز مواردها الذاتية، مسألة محورية وضرورية للاقتصاد المصرى فى الوقت الحالي، الذى تتصاعد فيه أهمية توسيع الحيز المالى الذى يُمكّن الدولة من تمويل الإنفاق العام الاجتماعى على مجالات التنمية البشرية كالصحة والتعليم.
جاء ذلك بالتزامن مع تكليف الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، الدكتور محمد معيط، وزير المالية، بتنفيذ توصيات الرئيس عبد الفتاح السيسى بإجراء تطوير شامل للهيئات الاقتصادية، كونها أصبحت تُشكل عبئا كبيرًا على الاقتصاد القومي، حيث تشير الإحصاءات إلى أن إجمالى مصروفات وتكاليف الهيئات الاقتصادية فى موازنة العام المالى 2022/2023 قد بلغ 1643 مليار جنيه، بينما بلغ إجمالى المصروفات العامة (دون الاستثمارات) فى موازنة العام نفسه 1694 مليار جنيه أى أنها تشكل 97% من الموازنة. وقد اتسع نطاق هذه الهيئات منذ نشأتها وحتى الآن فارتفع عددها إلى 59 هيئة فى عام 2023.
وأعدت وزارة المالية رؤية مُقترحة لإصلاح مسار الهيئات العامة الاقتصادية، وذلك فى ضوء أعمال اللجنة المعنية بالوزارة بإعداد هذه الرؤية لعرضها على اللجنة العليا للهيئات الاقتصادية، المُشكلة بقرار من رئيس الوزراء، فى شأن إصلاح وإعادة هيكلة الهيئات العامة الاقتصادية، ورفع كفاءة الأداء المالى لها.
وقال الدكتور محمد معيط، وزير المالية، أن وزارة المالية أعدت هذه الرؤية المقترحة بصورة مُتكاملة لوضع معايير الحوكمة بالهيئات العامة الاقتصادية، على نحو يساعد فى تحسين مستوى أداء تلك الهيئات، وتعزيز آليات الشفافية، والتنسيق فيما بينها لتحقيق استراتيجيات الدولة، لافتًا إلى أن الرؤية تتضمن خطة متكاملة ذات توقيتات وإجراءات محددة يتم اتخاذها لإعادة هيكلة أعمال الهيئات العامة الاقتصادية، لتحقيق الإدارة المثلى وتعظيم إيراداتها.
وفى دراسة أعدها المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، قدمت عدد من الحلول لعلاج الخلل الذى تعانى منه الهيئات الاقتصادية، أو على الأقل الحد من آثارها السلبية فى المالية العامة للدولة ووضع برنامج متكامل للخروج من المأزق الراهن.
وحددت الدراسة عدد من الحلول قصيرة الأجل، من خلال إعادة النظر فى تبويب هذه الهيئات إلى مجموعات متجانسة واتباع سياسات اقتصادية محددة تحقق الهدف من استقلالها، على أن تقوم بإنتاج السلع والخدمات على أسس اقتصادية تمكنها من تحقيق فائض مالى. ومن الضرورى العمل على أن تقوم الهيئات التى تبيع إنتاجها بأسعار اجتماعية بالعمل على الوصول بالأسعار إلى السعر الاقتصادى تدريجيًا وخلال فترة زمنية محددة.
وأشارت الدراسة إلى وجود هيئات يغلب عليها الطابع الاقتصادى وإطارها القانونى يؤهلها للعمل كوحدة اقتصادية يمكن أن تتحول إلى شركات قابضة مما يمكنها من إعادة هيكلة أصولها وخصومها وتصحيح الأوضاع المالية لها.
كما اقترحت الدراسة دراسة اقتصاديات التشغيل بما يقضى على أوجه الإسراف ومراجعة نظم التشغيل وقوائم التكاليف لترشيد وضبط الإنفاق وتفعيله خاصة للهيئات ذات الطابع الخدمى. مع تعميق المحاسبة عن الأداء على مستوى مراكز المسئولية، فضلا عن الاهتمام بالصيانة واستغلال الطاقات العاطلة مع التخلص من الأنشطة غير الاقتصادية، مع الاهتمام بالصيانة الدورية لتحجيم الأعطال ولتأمين نظم التشغيل.
وأكدت الدراسة على أهمية تعميق دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروعات الاستثمارية ومداومة متابعة اقتصاداتها تأمينًا لاستيراد التكلفة. حيث تظهر الميزانيات المجمعة لهذه الهيئات استثمارات مالية ضخمة للغاية، ولكنها لا تنعكس بالإيجاب على الأوضاع المالية لهذه الهيئات، إما لأنها لا تحصل منها على أى عائد أو أنها تدر عائدًا منخفضًا لا يتناسب مع الأموال المستثمرة فيها، أو يقل عن سعر الفائدة التى تتحملها بعض هذه الهيئات لتمويل تلك الاستثمارات. بل وأصبحت بعض هذه الاستثمارات تشكل عبئًا على تلك الهيئات لأنها تحقق خسائر متتالية سنويًا أو تتعرض قيمتها السوقية للانخفاض فى البورصة مثل هيئة الأوقاف والمجتمعات العمرانية.
وأشارت أيضا إلى أهمية توحيد المعاملة فى استخدام الفوائض بمراعاة القواعد المحاسبية فى احتجاز الاحتياطيات اللازمة للوفاء بأقساط القروض أو لتدعيم مراكزها المالية، أما بالنسبة للهيئات التى تسفر نتائج أعمالها باستمرار عن عجز جارٍ فإن الأمر يقتضى إجراء الدراسات الجادة والموضوعية لكل هيئة على حدة لدراسة أسباب العجز، ووضع الحلول المناسبة لمساعدة تلك الهيئات على استعادة توازنها المالى.
أما فيما يتعلق بالحلول متوسطة الأجل، فقد رأت الدراسة ضرورة ضم كل من الهيئات الاقتصادية والصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة، باستثناء الجهات ذات الطبيعة الخاصة مثل الهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية وهيئة البريد نظرًا لطبيعتهما.
كذلك تحويل هيئتى البترول وقناة السويس إلى شركات قابضة نوعية، مثلها مثل مصر للطيران وذلك بعد أن فقدت مبررات الاستقلال وينطبق الوضع نفسه على الصناديق الخاصة، إذ يمكن ضمها أيضًا إلى الموازنة باستثناء حسابات المشروعات البحثية والمشروعات الممولة من المنح والاتفاقيات الدولية فضلًا عن حسابات الإدارات الصحية والمستشفيات وصناديق تحسين الخدمة الصحية ومشروعات الإسكان الاقتصادى.
وبمقتضى هذا الاقتراح تكون الموازنة معبرة وبحق عن الوضع المالى للدولة ويُزال اللغط السنوى حول الالتزام بالدستور فيما يتعلق بالإنفاق على مجالات الصحة والتعليم والبحث العلمي، على الرغم من صدور قانون المالية الموحد رقم 6 لسنة 2022 والذى أعاد تعريف الإنفاق الحكومي، فعلى سبيل المثال فإن التقسيم الوظيفى للموازنة يقتصر فقط على بنود الإنفاق داخل الموازنة العامة ولا يتضمن الهيئات الاقتصادية العاملة فى هذا المجال، وهى (الهيئة العامة للتأمين الصحى والمؤسسة العلاجية والتأمين الصحى الشامل والشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي) وغيرها من الجهات التى تعد من الإنفاق العام وليس الإنفاق الحكومى وهو الأساس عند تقييم دور الدولة فى الإنفاق على الجوانب الاجتماعية المختلفة