أصدرت دائرة توحيد المبادئ - بالمحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة – حكما فريدا من نوعه، بالعدول عن مبدأ وإقرار أخر حول مخالفات البناء، قالت فيه: "مخالفات البناء تُعد من قبل المخالفات المستمرة وليست من المخالفات الوقتية، ولا يسرى عليها التقادم، تأسيساً على أن هناك حقوقاً غير قابلة للتقادم، وهى الحقوق المتعلقة بالنظام العام، كحق جهة الإدارة فى إصدار قرار بإزالة الأعمال المخالفة أو تصحيحها، فمثل هذه الحقوق لا تسقط بالتقادم".
صدر الحكم في الطعن المقيد برقم 98064 لسنة 69 قضائية عليا، برئاسة المستشار عادل فهيم محمد عزب، وعضوية المستشارين إبراهيم محمد إسماعيل عبد الله، ومنير محمد عبد الفتاح غطاس، وفوزي عبد الراضي سليمان، وعطية حمد عيسي عطية، ومحمد صبحي عطية علي، ومختار علي جبر حسن، وعمر ضاحي عمر ضاحي، والمستشار هشام محمود طلعت الغزالي، وعبد السلام عبد المجيد عبد السلام النجار، ورضا عبد المعطي السيد محمود، ومحمد عبد المحسن إسماعيل، وأمانة سر أسعد سيد عمر .
هل مخالفات البناء تعد من قبيل المخالفات المستمرة أم الوقتية؟
وأودعت هيئة مفوضى الدولة تقريرًا مسببًا بالرأي القانوني في الطعن، ونظر الطعن أمام الدائرة العاشرة عليا (فحص) بالمحكمة الإدارية العليا، وبجلسة 26 يوليو 2023 قررت إحالته إلى الدائرة العاشرة (موضوع) لنظره بجلسة 4 أكتوبر 2023، فنظرته بهذه الجلسة والجلسات التالية لها، وذلك على النحو الثابت بمحاضر الجلسات، وبجلسة 27 مارس 2024 قررت وقف الطعن تعليقا وإحالته إلى الدائرة المشكلة طبقا لنص المادة (54) مكرزا من قانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم (47) لسنة 1972، - والمضافة بالقانون رقم (136) لسنة 1984، وذلك لترجيح أحد اتجاهي المحكمة الإدارية العليا فيما صدر عنها من أحكام بشأن ما إذا كانت مخالفات البناء تعد من قبيل المخالفات المستمرة أم الوقتية، ومدى إعمال أحكام وقواعد التقادم بجميع أنواعه على مخالفات البناء التي استطال على جهة الإدارة زمن اكتشافها أو التصرف بشأنها من عدمه، ونفاذا لذلك، ورد الطعن الماثل إلى دائرة توحيد المبادئ، حيث أودعت هيئة مفوضى الدولة تقريرا بالرأى القانوني.
وحيث إن جوهر الإحالة إلى هذه الدائرة ينحصر في الترجيح بين اتجاهين بالمحكمة الإدارية العليا فيما صدر عنها من أحكام بشأن ما إذا كانت مخالفات البناء تعد من قبيل المخالفات المستمرة أم الوقتية، ومدى إعمال أحكام وقواعد التقادم بجميع أنواعه على مخالفات البناء التي استطال على جهة الإدارة زمن اكتشافها أو التصرف بشأنها من عدمه.
الاتجاه الأول: مخالفات البناء من المخالفات المستمرة
فقد ذهب الاتجاه الأول إلى أن قدم مخالفة البناء ليس من شأنه أن يصم القرار الصادر بإزالتها أو تصحيحها بعدم المشروعية أو البطلان، وذلك بحسبان أن مخالفات البناء دون ترخيص أو القيام بأعمال بناء مخالفة الشروط الترخيص أو لأحكام القانون بصفة عامة، هي من المخالفات المستمرة، التي تعد واقعة في كل لحظة أو في كل جزء من الزمن ممتدة فيه مادامت هذه المخالفة ما زالت قائمة دون إزالتها، ومن ثم لا تلحقها أحكام التقادم، ولا تسقط مسئولية الجهة الإدارية في إزالتها أو تصححيها كأصل عام، وأن مرور مدة من الوقت - طالت أم قصرت - على وقوع أي من هذه المخالفات لا يعني أيضا كأصل عام تجاوز الجهة الإدارية عن إزالتها أو تصحيحها أو سقوط حقها في ذلك.
ومن ناحية أخرى - فإن توصيل المرافق إلى العقارات المقامة دون ترخيص أو التي توجد بها أعمال مخالفة، لا يعني منح الترخيص الضمني لهذه العقارات، أو التجاوز عما شابها من مخالفات، ولا يحول ذلك دون تدخل الجهة الإدارية المختصة بإصدار قرارها بإزالة أو تصحيحالأعمال المخالفة، طبقا لحكم المحكمة الإدارية العليا الصادر في الطعن رقم 2058 لسنة 40 قضائية عليا، الصادر بجلسة 26 مارس 2000.
الاتجاه الثاني: مخالفات البناء من المخالفات الوقتية
بينما ذهب الاتجاه الثاني إلى أن تراخي جهة الإدارة في استعمال الحق المقرر لها بإزالة أعمال البناء المخالفة، والذي كان متاحاً لها طوال مدة طويلة من الزمن، ثم استعمالها بعد تلك السنوات الطوال لهذا الحق يكون من شأنه المساس والإضرار بمراكز قانونية استقرت في ظل القوانين السارية وقت حدوث المخالفة، ومن ثم فلا يجوز المساس بتلك المباني التي أقيمت سواء بإزالتها أو بتصحيحها، وعليه يضحى القرار الصادر بإزالة تلك المخالفات مخالفا القانون.
ويجد هذا الاتجاه سنده في أن الفعل المادي المؤثم في جريمة البناء دون ترخيص أو بالمخالفة له هو فعل يتم وينتهي بمجرد إتمام البناء المخالف، ومن ثم فإن هذه الجريمة تعد من قبيل الجرائم الوقتية غير المستمرة، والتي يتم ارتكابها في تاريخ معين بصرف النظر عن استمرار الآثار المترتبة عليها المتمثلة في المبنى، فهذه الآثار لا يعتد بها في تغيير وصف الفعل الذي وقعت به الجريمة، ولا يعد هذا الفعل من قبيل الأفعال المستمرة لمجرد استمرار الآثار المترتبة عليه (المبنى المخالف)، ومن ثم فإن هذه الجريمة تخضع لنصوص القانون الساري وقت إتيان الفعل المكون لركنها المادي، ولا تسري عليها القوانين اللاحقة على ارتكابها إلا ما كان منها أصلح للمتهم، وبناءً عليه فإن العقوبات التي يتضمنها القانون الساري وقت ارتكاب المخالفة بما فيها عقوبة الإزالة أو الهدم تكون هي الواجبة التطبيق عليها حتى لو لم يتم اكتشافها إلا في ظل العمل بأحكام القانون الجديد، وذلك نزولا على قواعد سريان القانون من حيث الزمان .
ذلك أن مخالفات البناء التي تمت واكتملت في ظل العمل باحكام قانون تنظيم وتوجيه أعمال البناء الصادر بالقانون رقم (106) لسنة 1979 وتعديلاته بحسبانها من الجرائم الوقتية غير المستمرة تظل خاضعة الأحكام هذا القانون، ولا تخضع لأحكام قانون البناء الصادر بالقانون رقم (119) لسنة 2008 حتى إن لم يتم اكتشافها إلا بعد صدور القانون الأخير وبدء العمل به.
دائرة توحيد المباديء بالمحكمة الإدارية العليا تفصل في النزاع
وتضيف "المحكمة": أكثر مما يقوم على وجوب احترام الأوضاع المستقرة، التي مضى عليها من الزمن ما يكفي للاطمئنان إليها وإحاطتها بسياج من الثقة المشروعة، إلا أن تلك المراكز التي يعني المشرع احترامها والحفاظ على استقرارها هي التي تتصف بالقانونية، أي أن صاحبها اكتسبها دون مخالفة أحكام القانون، ومن ثم فلا رعاية المركز تمخض عن مخالفة القانون، فمرور الزمن على إقامة بناء مخالف لا يخول حقوقا لصاحبه ليس لها سند من أحكام هذا القانون، فلا تكتسب تلك المباني التي لم يصدر ترخيص بإنشائها، ولا بإجراء أعمال فيها، ولا بتعليتها أو تعديلها أو تدعيمها أو هدمها أو تشطيبها، أية حصانة أو استقرارًا في مواجهة أحكام الدستور أو القانون، وهو ما أكده إفتاء الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع مؤخرا - وفي خصوص المسألة المعروضة عليها.
وتؤكد "المحكمة": حيث ذهب إلى أن استناد لجنة التظلمات المشكلة وفقا للمادة العاشرة من القانون رقم (17) لسنة 2019 في شأن التصالح في بعض مخالفات البناء وتقنين أوضاعها قبل إلغائه حال نظرها التظلم المقدم إليها بشأن القيمة الإجمالية المقدرة للتصالح وتقنين الأوضاع إلى أحكام تقادم الالتزام الواردة بالمادة (374) من القانون المدني، مردود من ناحية أولى بأنه وإن كان الأصل العام أن الالتزامات تتقادم بصفة عامة بانقضاء 15 سنة ما لم يرد نص خاص يقرر مدة أقل أو أكثر بالنسبة إلى التزام معين، فإن المستقر عليه أن هناك حقوقاً غير قابلة للتقادم، وهي الحقوق المتعلقة بالنظام العام، كحق جهة الإدارة في إصدار قرار بإزالة الأعمال المخالفة أو تصحيحها، فمثل هذه الحقوق لا تسقط بالتقادم الطويل، ويدعم هذا النظر أن القانونين رقمي (106) لسنة 1976 في شأن توجيه وتنظيم أعمال البناء، و (119) لسنة 2008 بشأن البناء لم تتضمن نصوصهما أي مواعيد لسقوط حق جهة الإدارة في إصدار قرار بإزالة الأعمال المخالفة أو تصحيحها، ارتكاناً إلى أن جرائم مخالفات البناء من الجرائم المستمرة التي لا تتقيد بمواعيد أو تسقط بالتقادم، فضلا عن أن العبرة في تقدير مشروعية القرار هي بوقت صدوره في ظل الأحكام القانونية المعمول بها أنذاك.
دائرة توحيد المباديء بالمحكمة الإدارية العليا تعدل عن مبدأ وتُقر أخر
ومن ناحية أخرى - فإن التعديل الذي أدخله المشرع على المادة الأولى من القانون رقم (17) لسنة 2019 بموجب القانون رقم (1) لسنة 2020 والذي أجاز بمقتضاه التصالح وتقنين الأوضاع على الأعمال التي ارتكبت بالمخالفة لأحكام القوانين المنظمة للبناء الصادرة قبل العمل بأحكام القانون المذكور أولا، بعد أن كان التصالح وتقنين الأوضاع عند صدور القانون رقم (17) لسنة 2019 مقصورًا فحسب على الأعمال التي ارتكبت بالمخالفة لأحكام قانون البناء الحالي الصادر بالقانون رقم (119) لسنة 2008، لهو دليل واضح على انصراف إرادة المشرع إلى من نطاق التصالح وتقنين الأوضاع ليشمل جميع أعمال البناء المخالفة الجائز التصالح عليها التي ارتكبت في ظل قوانين البناء المتعاقبة السابقة على صدور قانون البناء الحالي المشار إليه، وبصرف النظر عن المدة التي مضت على ارتكابها، بما يدل على التفات المشرع عن إعمال أحكام التقادم المسقط الواردة بالمادة (374) من القانون المدنى . فتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع الصادرة بجلسة 31 يناير 2024 – ملف رقم 7/2/368.
وفي ضوء ما تقدم، فإن مخالفة قوانين البناء ما دامت قائمة فإنها تعد من المخالفات المستمرة التي لا تغل يد الجهة الإدارية عن إتخاذ الإجراءات القانونية بشأنها ضد المخالف وقت اكتشافها وفقا لأحكام القانون الساري في هذا التاريخ. ولا يغير من ذلك، أن الأعمال المخالفة مضت عليها مدة معينة ولو تجاوزت مدة خمس عشرة سنة على اكتشافها أو التصرف بشأنها، ذلك أن ممارسة الجهة الإدارية لسلطتها المقررة قانوناً سواء بالتصحيح للأعمال المخالفة أو إزالتها لا تسقط بالتقادم، وأن مضى مدة معينة على ارتكاب الفعل المؤثم قد يحول دون معاقبة المخالف جنائيا، ولكنه لا يحول بين جهة الإدارة وإعمال مسئوليتها تجاه هذه المخالفات لأن سلطتها تظل قائمة ما دامت المخالفة من المخالفات المستمرة التي لا تسقط بالتقادم.
وحيث إنه بناء على ما سلف بيانه، فإنه يغدو الاتجاه الذي من مقتضاه أن مخالفات البناء تعد من قبيل المخالفات المستمرة وليست الوقتية، ولا يسرى عليها أحكام التقادم، ومن ثم عدم إعمال أحكام وقواعد التقادم بشأن سلطة جهة الإدارة في مواجهة مخالفات البناء على مختلف أنواعها، إذ تظل سلطة التدخل وإعمال مسئوليتها قائمة تجاه هذه المخالفات مهما طال عليها الزمن ودون التقيد في ذلك بأحكام التقادم، هو الأولى بالترجيح .
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة بترجيح الاتجاه الذي من مقتضاه أن مخالفات البناء تعد من قبيل المخالفات المستمرة وليست الوقتية، ولا يسرى عليها أحكام التقادم - وذلك على النحو المبين بالأسباب - وأمرت بإعادة الطعن إلى الدائرة المختصة للفصل فيه في ضوء ما تقدم .