فى جلسةٍ ستُسجل فى ذاكرة البرلمان المصرى، تحوَّل النقاش حول الحساب الختامى لموازنة الدولة للعام المالى 2023/2024 إلى معركة كلامية، كشفت عن انقسام حاد بين نواب المعارضة المُطالبين بمحاسبة الحكومة، ونواب الأغلبية المدافعين عنها، فى مشهدٍ جمع بين الاتهامات الجريئة بالفساد المالى، والتصفيق الحاد، وقرارات "حذف الكلام" من مضبطة الجلسة.
البداية كانت مع النائب محمد عبد العليم داود عن حزب الوفد، الذى طالب إحالة الحكومة إلى المحاكمة الجنائية، مستندًا إلى تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات الذى رصد – بحسب قوله – مخالفات مالية جسيمة، لكن طلبه اصطدم بجدار الأغلبية الذين قاطعوه بالتصفيق للحكومة، وقرار من رئيس المجلس المستشار الدكتور حنفى جبالى بحذف كلمته من مضبطة الجلسة.
لم تكن هذه هى الصدمة الوحيدة؛ فقد كشفت الأرقام التى أطلقها نواب المعارضة عن كارثة مالية تهدد مستقبل الأجيال القادمة: دين عام تجاوز 11 تريليون جنيه، 60% من موازنة الدولة تُسدد أعباء الديون، وكل مولود جديد فى مصر "مديون" بـ105 آلاف جنيه منذ لحظة ولادته! تصريحاتٌ دفعت نوابًا إلى المطالبة بـ"تغيير الحكومة"، بينما اكتفى آخرون بوصف السياسات الاقتصادية بـ"الفاشلة"، فى جلسةٍ بدت كـ"إنذار" من برلمانيين للحكومة.
إحالة الحكومة للمحاكمة
تناول النائب محمد عبد العليم داود الكلمة مُستهلًا هجومه بالإشارة إلى تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات، الذى وثق – وفقًا له – "إهدارًا للمال العام"، وقال: "ليس أمام ضمير أى نائب إلا إحالة الحكومة إلى النائب العام"، مُستندًا إلى 412 خطاب ضمان صادرًا عن وزارة المالية لصالح جهات مختلفة، بالإضافة إلى ديون مستحقة على الحكومة "تُسدد من دماء الشعب" دون الاستفادة منها.
ردة فعل الأغلبية كانت عنيفة؛ فمع تصفيقٍ عالٍ استهجنوا حديث النائب الوفدى، فيما تدخل رئيس المجلس محذرًا النائب من الخروج عن موضوع الجلسة، قائلًا: "أنت نائب قديم.. أمامك 45 ثانية". لكن داود أصر على موقفه، مُشيرًا إلى أنه قدم تقارير سابقة إلى النائب العام الأسبق عبد المجيد محمود، وأنه سيُقدم استجوابًا لسحب الثقة من الحكومة.
لم يُكتب لكلمة النائب الوفدى أن تصل إلى الأرشيف الرسم لمجلس النواب؛ فبعد انتهاءئها، طالب محمود فوزى وزير الشؤون النيابية، بحذف أى إشارة إلى "محاكمة الحكومة" من المضبطة، مؤكدًا أن "مؤسسات الدولة تعمل بتكامل".
وشدد الوزير على حرص الحكومة على مبدأ الشفافية والخضوع للقانون، قائلا: "بالمناسبة باب النائب العام مفتوح للجميع، وأهلاً وسهلاً بالمساءلة، ويتم التحقيق فى جميع القضايا، والحكومة أول من يحرص على احترام القانون وتعزيز الشفافية".
بينما علق جبالى: "ديمقراطيتنا تحتم احترام القانون"، ليُصدر قرارًا بحذف الجزء المثير للجدل من المضبطة، وسط موافقة أغلبية النواب.
كل طفل مولود مديون
لم يكن الهجوم مقتصرًا على النائب الوفدي؛ فقد حمل نواب من أحزاب مختلفة مشاعل النقد، حيث أعلن النائب المستقل ضياء الدين داود رفضه للحساب الختامى، كاشفًا أن 60.3% من إجمالى استخدامات الموازنة تُسدد فوائد ديون، وقال: "الحكومة تقترض لسد ديون قديمة.. والنتيجة أننا ندور فى حلقة مفرغة". وأضاف أن الدين العام زاد بنسبة 33% عن العام السابق، محذرًا: "الطفل المولود اليوم سيُولد مديونًا بـ105 آلاف جنيه". واستطرد: "إن لم أرفضها فإنى أخالف ضميرى".
من جهته، هاجم النائب محمد عطية الفيومى رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الحرية المصرى الحكومة، مُؤكدًا أن الإنفاق على التعليم والصحة "مخالف للنسب الدستورية"، وكشف أن الدين العام تجاوز 11.5 تريليون جنيه، بزيادة 3 تريليونات عن العام الماضى، قائلًا: "نحن أمام منحنى خطر.. جملة أعباء الدين بلغت 2.6 تريليون جنيه، أى أكثر من تريليون جنيه زيادة عن العام الماضى".
اتهامات بالفشل
تصاعدت حدة الاتهامات مع كلمة النائب عبد المنعم إمام، رئيس حزب العدل، الذى كشف أن "90% من توصيات البرلمان وملاحظات الجهاز المركزى للمحاسبات تُكرر منذ 5 سنوات دون حل"، وأشار إلى أن الهيئة العامة للتأمين الصحى تنتظر 12 مليار جنيه مستحقة من الحكومة، بينما وصل الدين السيادى إلى 19 ألف تريليون جنيه، وقال: "الحكومة تعتمد على الاقتراض بدل الإصلاح.. جربوا تغييرها!".
بدوره، هاجم النائب عاطف المغاورى، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع الحكومات المتعاقبة، قائلًا: "تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات تثبت فشلهم".
كما لم يتردد النائب إيهاب منصور في التعبير عن رفضه للحساب الختامى، مشيرًا إلى أن السياسات الاقتصادية المتبعة أدت إلى معاناة الشعب المصرى. وأكد أنه يجب التحقيق في أموال الصناديق الخاصة التي لم يُعرف مصيرها.
فى نهاية الجلسة أشار المستشار الدكتور حنفى جبالى، رئيس مجلس، إلى أنه بعد هذه الجلسة الساخنة التى كانت مليئة بالكثير من المشاحنات والخلاف فى وجهات النظر بشكل أكثر مما حدث فى الجلسات السابقة، ما جعل هذه الجلسة أكثر سخونة من أى جلسة مضت.
مؤكدا أن هذا الاختلاف يعكس إفساح المجال للخلاف فى الرأى أيا كانت الانتماءات الحزبية وهو ما يمثل المعنى الصحيح للديمقراطية، منوها أن هذا الاختلاف يجب أن يكون مغلفاً بعدم توجيه أى إساءة لأى مؤسسة من مؤسسات الدولة أو أى مسئول فى الحكومة، وأن يكون التركيز فى الحديث على الأمور الفنية فقط فى الموضوع المعروض وهو ما تضمنته أحكام اللائحة الداخلية لمجلس النواب.
تظهر الجلسة العامة لمجلس النواب اليوم أن التوترات بين الأغلبية والمعارضة تعكس حالة من عدم الرضا العام عن أداء الحكومة. فهل تعكس هذه المطالبات بإحالة الحكومة إلى المحاكمة بداية لمرحلة جديدة من الضغط البرلمانى على الحكومة، أم أنها مجرد صرخة فى وادٍ؟ إن تزايد الدين العام والمشاكل الاقتصادية المتراكمة تضع الحكومة فى موقف حرج، ما يثير تساؤلات حول مدى قدرتها على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
تتزايد المخاوف من أن استمرار السياسات الحالية قد يؤدى إلى تفاقم الأزمات، ما يطرح سؤالًا آخر: هل ستستطيع الحكومة إيجاد حلول مبتكرة لمعالجة الأزمات الاقتصادية، أم أن استمرارها فى الاقتراض سيزيد من تفاقم هذه المشكلات؟ بالنظر إلى طرح هؤلاء النواب ومطالبهم، يبدو أن هناك حاجة ملحة لتغيير جذرى فى السياسات، فهل سيكون البرلمان قادرًا على الضغط من أجل هذا التغيير، أم ستظل الأمور على حالها؟.