التقطت شبكة الاستماع فى الأجهزة المعنية بمصر ليلة 28 يوليو 1970 رسالة من قيادة حركة «فتح» الفلسطينية إلى الإذاعة الفلسطينية بالقاهرة، نصها: «قولوا كل شىء بلا تحفظ، وبكل حزم ودون تسلل، نحن ضد الحل السياسى، ضد محاولات الانحراف، ضد التبريرات من كل الجهات.. وقف القتال ضد العدو الصهيونى يعنى بدء القتال للمقاومة الفلسطينية منفردة».
تلقى الرئيس جمال عبدالناصر نص هذه الرسالة، أثناء اجتماعه لبحث مسألة هجوم الإذاعات الفلسطينية ضد مصر، رغم أنها تبث إرسالها على موجات الإذاعة المصرية بالقاهرة، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى مقاله الطويل «بصراحة.. عبدالناصر والمقاومة الفلسطينية» بالأهرام، 25 ديسمبر 1970، وانتهى الاجتماع بصدور قرار بوقف هذه الإذاعات مؤقتا فى 28 يوليو، مثل هذا اليوم، 1970، ونشرت «الأهرام» بيانا بذلك بصفحتها الأولى فى 29 يوليو 1970، أوضح أن السبب يعود إلى موقف بعض هذه المنظمات الفلسطينية، إزاء قبول مصر للمبادرة الأمريكية «مبادرة روجرز»، وكشف عن أن مصر شرحت وجهة نظرها فى هذا الأمر على كل المستويات، وبكل الوسائل ولكل قطاعات الرأى العام العربى رسمية وشعبية، ومن هذه الوسائل اتصالات وإيضاحات وضمانات مباشرة، قدمت للمنظمات الفلسطينية المسؤولة، وبدا من هذه الاتصالات أن المنظمات الفلسطينية متفهمة، لكن ذلك لم يحدث الأثر المرجو.
يكشف هيكل ما جرى قبل إصدار هذا القرار، مؤكدا، أن المقاومة الفلسطينية كانت من أول القوى العربية، التى حرص عبدالناصر أن يوفر لها كل عناصر فهم أسباب قبوله مبادرة روجرز، وبعث برسول خاص إليها، يوضح لهم: «لكم أن ترفضوا هذه المبادرة تأسيسا على رفضكم قبول قرار مجلس الأمن 242، وعليكم زيادة عملياتكم وتكثيفها خلال فترة إطلاق النار المؤقت، والنقطة الحاسمة فى الموضوع كله هى الأرض، فإذا لم تقبل إسرائيل الانسحاب، فلا مفر من استئناف القتال، لأن شرط الانسحاب من الأرض هو الأساس فى كل تحرك بالدبلوماسية أو بالسلاح فى إطار نضال سياسى شامل».
يؤكد هيكل، أن رسالة عبدالناصر لم تُحدث أثرها المطلوب، بسبب تضارب النزاعات داخل اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصدرت اللجنة المركزية قرارا يدين قبول مقترحات روجرز، ويُعرض بالذين قبلوها.. يضيف هيكل: «حدث تجاوز خطير، حيث بدأت «جريدة فتح»، الناطقة بلسان اللجنة المركزية وليس بلسان «فتح»، فى نشر مقالات وتعليقات تتضمن هجوما لا يمكن قبوله ضد مصر وعبدالناصر، ووصل بها الأمر إلى حد وصف القبول بمقترحات روجرز على أنه مؤامرة من جانب الذين قبلوها، وتدينهم بالعمالة للإمبريالية والصهيونية، ثم بدأت تعليقات فيها مساس بعبدالناصر كالقول: «إذا كان الزعماء تعبوا من الكفاح، فعليهم أن يخرجوا من الساحة»، ثم سخافات أخرى كثيرة، ظهر فيما بعد أن قيادة فتح لم تكن مسؤولة عنها، وكان المسؤول عنها جو المزيدات باللجنة المركزية.
يذكر هيكل: «كانت إذاعات منظمات المقاومة الفلسطينية وإذاعة «العاصفة» بينها تبث ما تريد على موجاتها من القاهرة دون رقابة، وتنقل عن بيانات اللجنة المركزية، وجريدة فتح، ورفض عبدالناصر توصية بوقف هذه الإذاعات قائلا: «يجب أن نترك لهم فرصة لإعادة تغيير موقفهم، وأنه لا يضير مصر أن يصدر منها صوت يعارض سياستها الرسمية، وأن ذلك أقرب إلى دور مصر الحضارى».. يكشف هيكل، أنه فى ليلة 25 يوليو 1970 تلقى تعليمات من عبدالناصر بالاتصال بمكتب «فتح» بالقاهرة، وبحث الأمر معهم «كان هيكل وزيرا للإعلام إلى جانب رئاسته لتحرير الأهرام وقتئذ».. يؤكد: «قضيت ثمانى وأربعين ساعة فى اتصالات مستمرة، لكن قيادة المقاومة فى عمان كانت غارقة فى طوفان من الارتباك صنعته حمى المزايدات، وفى 27 يوليو، كان عبدالناصر مازال ينتظر، بينما الإلحاح عليه من جهات رسمية مسؤولة تطالبه بوقف بث هذه الإذاعات».
يضيف هيكل: «قابلت عبدالناصر يومها، وكان قوله: أريد الاطمئنان إلى أنهم سمعوا وجهة نظرنا قبل أن اتخذ أى قرار، وخرجت من عنده استدعى المسؤولين فى «فتح» بالقاهرة، وأطلب إليهم أن يبعثوا فورا برسول إلى عمان ينقل إلى القيادة هناك أن الأمر لم يعد يقبل الانتظار الطويل، وسافر عدد منهم فى طائرة الظهر، واتفقنا على أن يبعثوا برسالة فى المساء»، لكن فى ليلة 28 يوليو، التقطت الأجهزة المصرية رسالة «فتح» إلى المسؤولين بالإذاعة، تطالبهم بالاستمرار فى الهجوم، فوافق عبدالناصر على وقف بثها.. يؤكد هيكل: «كان حزينا أكثر منه غاضبا، فهو الذى عرض على فتح أن تكون لها إذاعة خاصة بها، وكان يعتقد أن ذلك سيكون دفعا كبيرا لها، وكان هو الذى ألح على فتح أن تكون لها جريدة تنطق باسمها».
يلفت «هيكل» النظر إلى أن بيان وقف بث هذه الإذاعات «مؤقتا» كان ختامه: أن الجمهورية العربية المتحدة ما زالت تعتبر أن حركة المقاومة الفلسطينية فى جوهرها أنبل الظواهر، التى أفرزتها الأمة العربية كرد فعل لنكسة 1967».