الجمعة، 20 سبتمبر 2024 02:12 ص

"بليغ فى الذهاب وفى الإياب".. كلاكيت تانى مرة "20 رسالة بلاغية فى خطاب السحيمى للزند"

"بليغ فى الذهاب وفى الإياب".. كلاكيت تانى مرة "20 رسالة بلاغية فى خطاب السحيمى للزند" 20 رسالة بلاغية فى خطاب السحيمى للزند
الثلاثاء، 02 فبراير 2016 03:15 م
كتب برلمانى
قبل أكثر من قرن عاد أحمد عرابى من منفاه الذى أرسله إليه المحتل الإنجليزى ظلمًا، ليقابله أحمد شوقى بقصيدة هجاء لاذعة، مطلعها "صغار فى الذهاب وفى الإياب"، مختزلاً ما رآه من خفوت الصوت والحضور فى فشل الهبّة العرابية وهوان الذهاب إلى المنفى وهوان الرجوع منه، وإذا حاولنا استعارة الموقف ومطلع قصيدة أمير الشعراء فى موقف لا تنقصه بلاغة الموقف التاريخى القديم، بين المستشار محمد عبد المنعم السحيمى الرئيس بمحكمة قنا الابتدائية، ووزير العدل المستشار أحمد الزند، فيمكننا اختصار المعنى فى بيت شوقى بشىء من التصرّف البسيط، ونقول "بليغ فى الذهاب وفى الإياب"، ونحن نطالع الدرس البلاغى الثانى الذى يقدمه القاضى الشاب لوزير العدل بعد درس الاستقالة.

قبل أيام اشتعلت أوساط القضاة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى بصيغة الاستقالة المكتوبة التى تقدم بها المستشار محمد عبد المنعم السحيمى، لرئيس مجلس القضاء الأعلى، متظلّمًا مما وصفه بالترصد وتصفية الحسابات من جانب وزير العدل، المستشار أحمد الزند، وامتلأت الرسالة بلغة بلاغية جزلة وبمعانٍ وأبنية دلالية ضخمة وفارهة، تعيدنا إلى زمن البلاغة والرسائل الأدبية المبدعة، وإلى عصور منصات القضاء الزاخرة بالعارفين باللغة والأدب والفن والبلاغة.

بعد يومين من أزمة الاستقالة، شهد ديوان عام وزارة العدل لقاء بين المستشار الزند والمستشار السحيمى، وكان الزند قد رفض تلقى الاستقالة، وأشاعت بعض وسائل الإعلام أن اللقاء كان بغرض اعتذار السحيمى لوزير العدل، وأنه اصطحب والدته وزوجته معه للاعتذار، وهو ما ردّ عليه القاضى الشاب برسالة إلى وزير العدل، لا تنقصها البلاغة والصياغة الأدبية الجميلة، مقدّمًا درسًا ثانيًا فى البلاغة لوزير العدل.

يبدأ المستشار السحيمى رسالته بنفى الغرض والهوى عن استقالته، والتعريض بردود فعل من تناولوها بالتأويل والتفسير على خير حقيقتها، مبرّرًا بعبارات بليغة رشيقة سبب لجوئه إليها، وعلاقته بمنصة القضاء الذى يُرى فى وجوه القضاة ويُعرفون به، ثمّ يفنّد ما تداولته بعض وسائل الإعلام عن كون اللقاء زيارة عائلية للاعتذار، شارحًا سبب ظهور زوجته ووالدته فى اللقاء، وقادحًا فى رجال الوزارة الذين استغلوا الأمر على غير حقيقته، ومعرّضًا بمواقفهم ولزومهم لأعتاب المسؤولين، برشاقة وبلاغة أيضًا، لينتقل من هذا إلى مخاطبة الوزير مباشرة بأن من نالوه وأهله نالوا شخص الزند نفسه، الذى دعا الأم والزوجة إلى مكتبه الذى "لا يخلو إليه أحد إلا بإذنه".

واختتم القاضى محمد عبد المنعم السحيمى رسالته بالثناء على موقف الزند وانتقاد سلطته، مزجًا لسمّ المعنى فى عسل الجملة، شاكرًا رفض استقالته وإعادته إلى منصته، ولكنه الشكر الملتبس بالنقد والتقريع، لأنها منصته ولأنه لا فضل لأحد عليه فى هذا - أو هكذا تشى تعبيراته اللغوية - لأنه والقضاء والمنصة "كيعقوب وقميص ابنه يوسف".

طوال رسالته يعتمد القاضى محمد عبد المنعم السحيمى على جزالة المفردات وحُسن سبكها وصياغتها، فى جمل قصيرة ومتتابعة بإيقاع سريع، دون إفراط فى أدوات الربط بينها من أسماء الإشارة وأسماء الموصول وحروف الجر والعطف، معتمدًا على صور المجاز والبلاغة العديدة، من التشبيه والكناية والمجاز المرسل والتوريه، بشكل يصنع مستويات عديدة من المعانى فى خطابه لوزير العدل، ما بين معنى لغوى مباشر ومعنى ضمنى يحمل النقد أو التقريع أو الاستهجان أحيانًا، ولكن الملفت والغريب أن الرسالة على جمالها وتمكنها حملت أخطاء لغوية لا تتماشى والمستوى الذى تبدو عليه الرسالة، ومنها قوله: ما كان لأمى ولا لامرأتى أن يأتياك، والصواب أن تأتياك، وأيضًا فأتيا فلزما مواضع السيارة، والصواب فأتيتا فلزمتا، أو فأتتا فلزمتا.

أما نص رسالة المستشار السحيمى البليغة فهى كالتالى: "لم تكن استقالتى التى أديتها إليك مناورة ليلوكنى الناس بألسنتهم، ولا لأكون مضغة الأفواه، وإنما أخذتنى بها عزيزات الأنفس إذا أبت أن تضيق الدنيا من ظلم أهلها، ولا أدّيتها كذلك لأتخذ عليك موقعًا لترانى، فلقد هان عندى أعز ما ترك والدى، وآخر ما أشبهه به، فإن القضاء وجه يرى فينا ونعرف به.
وحين استحكمت إجراءات قبولها، حتى لزم أن يتلقى القاضى وزيره، سعيت إليك، لا طمعًا ولا لأحنى القامة فى مقابل أن أعود، ثم عاتبتنى فأجلى عتابك ما كان من ظلم، فبدت الاستقالة مثل سوءة واريتها، فألزم حسن خلقك نفسى أن تعود.
أما عن خبر بثته الجرائد، أنى وأمى جئناك معتذرين، وأنا لزمنا بابك كعزيز قوم ذل، فهو شجرة خبيثة بذرها رجالك ليتخذوها زينة عند سيدهم، وقد سوّلت لهم أنفسهم أن ما يفعلونه نفعله، ونأتى إليك مثلما يأتون، وإنك تعلم أنه ما أبعده عن شرفى، وأن نساءنا عرض، لا يعتذرن فى مجالس الرجال.

إن الذين نالونى ممن حولك نالوك لو يعلمون، ما كان لأمى ولا لامرأتى أن يأتياك إلا لقربى بيننا، عهد أبينا الذى عند ربه، لقد رافقانى الطريق إليك، قلبان يخفقان، وإنى بما أشفقت طاوعتهما، فأتيا فلزما مواضع السيارة خارج الديوان، وأنك من دعوتهما بفضل منك، لا يخلو إلى مجلسك أحد إلا بإذنك، غير أن السلطة لا تغنى والدًا عن ولده، فعظم صدرك بعظيم شكواى.

لقد أعدتنى إلى نفسى، وما أعز الرجوع إليها، فإن المنصة قطعة من السماء، إذا ثبّتنى عليها، فإنها كوثرى، عطاء حيث أرضى، وإنى بلغت جميع الأمل فانقطع من بعدها الرجاء، ما زالت بقلبك بعض من أبوة عاملتنى بها، والسلطة فى يد صاحبها لا تترك له قلبًا يلين، فبما رحمة منك رددت علىّ استقالتى، وما رددت سوى قميص يوسف ليعقوب أبيه، وإنى لك من الشاكرين".

print