أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تحليلاً جديداً حول "صناعة بناء السفن"، استعرض من خلاله مراحل وعمليات صناعة بناء السفن وواقع سوق تلك الصناعة عالميًّا، بالإضافة إلى عرض لأبرز التجارب الدولية فى هذا المجال، والجهود المصرية فى هذا الشأن، حيث أشار إلى أن صناعة بناء السفن تُعد إحدى الركائز الأساسية للنشاط الاقتصادى العالمي؛ وذلك نظرًا لما يشكله النقل البحرى من أهمية بالغة فى التجارة الدولية والاقتصاد العالمي؛ إذ يتم نقل أكثر من 80% من حجم التجارة الدولية فى السلع من خلال البحر، وترتفع تلك النسبة فى أغلب البلدان النامية، وهو ما يعنى توافر الطلب على السفن الجديدة بشكل مستمر، وتهيمن منطقة شرق آسيا على صناعة بناء السفن؛ إذ استحوذت الصين وكوريا الجنوبية واليابان على النسبة الكبرى من إجمالى الإنتاج العالمى لتلك الصناعة فى عام 2022.
أوضح التحليل أن عملية بناء السفن تُعد واحدة من أكثر أنظمة الأعمال والإنتاج تعقيدًا؛ وذلك نتيجة التعقيد فى منتجاتها النهائية؛ حيث تتطلب تلك العملية عددًا كبيرًا من المكونات والمنتجات الوسيطة، مضيفاً أن أن عملية بناء السفن تنقسم إلى ثلاث مراحل تشمل: عملية بناء هيكل السفينة، وعملية التجهيز، وعملية الطلاء.
وتتم عملية بناء الهيكل عبر تصنيع مكونات هيكل السفينة، ثم بعد ذلك يتم تجميعها ولحامها لتصبح منتجات وسيطة فى صورة مجمعة، ثم يتم رفعها إلى الرصيف لتجميعها فى الهيكل، ويدخل فى تلك المرحلة العديد من المنتجات الوسيطة كالحديد والألومنيوم والنحاس والخشب واللدائن الهندسية والأسمنت والسيراميك والمطاط والزجاج.
أما عملية التجهيز فيتم خلاها تجهيز غرفة المحرك، وتجهيز سطح السفينة، وتجهيز المقصورة، وأخيرًا التجهيز الكهربائى. وتتضمن عملية الطلاء -إزالة الصدأ ووضع الطلاءات المختلفة على الأسطح الداخلية والخارجية لبدن السفينة وأجزاء التجهيز- وفقًا للمتطلبات الفنية التى تقضى بفصل السطح المعدنى عن الوسط المسبب للتآكل؛ وذلك بهدف منع تعرض بدن السفينة للتآكل.
أشار التحليل إلى أن السفن تُصنَّف إلى خمس تصنيفات أساسية، وهي: السفن التجارية، والسفن البحرية، وسفن الصيد، وسفن خدمات، والسفن الداخلية، ومع التطور التكنولوجى، أصبحت اتجاهات تكنولوجيا بناء السفن تشمل بشكل أساسى تكنولوجيا إنتاج السفن منخفضة استهلاك الوقود وعالية الكفاءة، وتكنولوجيا بناء السفن الخضراء، وتكنولوجيا بناء السفن الرقمية، وتكنولوجيا بناء السفن الذكية.
أشار التحليل إلى أن صناعة بناء السفن عالميًّا مرت بمراحل مختلفة من الهيمنة التى مارسها عدد من الدول على هذه الصناعة؛ ففى البداية احتلت بريطانيا المركز الأول عالميًّا فى تلك الصناعة، وكان ذلك فى خمسينيات القرن التاسع عشر، ثم فقدت هذا المركز بسبب فشلها فى تطوير أحواض بناء السفن الخاصة بها من الناحية الفنية، ثم انتقلت هيمنة تلك الصناعة إلى اليابان لتحتل الترتيب الأول عالميًّا بفضل النمو السريع للنظام المالى اليابانى بعد الحرب العالمية الثانية، والمبادرات الحكومية اليابانية لتشجيع بناء السفن، واستمرت هيمنة اليابان على هذه الصناعة الحيوية إلى أكثر من ثلاثة عقود، حتى واجهت أحواض بناء السفن اليابانية تعقيدات فى توظيف المهندسين من الشباب الكفء، وارتفاع تكلفة العمالة فى ذات الوقت، وهو ما فتح الأفق أمام كوريا الجنوبية لتتولى المركز الأول عالميًّا فى منتصف تسعينيات القرن العشرين، وبمرور الوقت أصبحت الصين رائدة عالميًّا فى بناء السفن تحديدًا فى عام 2010؛ حيث زاد إنتاج بناء السفن التجارية الصينية بنحو 13 مرة بين عامى 2002 و2012.
وأوضح مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار أن حجم السوق العالمية لبناء السفن قد بلغ فى عام 2023 نحو 158.25 مليار دولار، ومن المتوقع أن يواصل السوق العالمى نموه ليصل إلى 221.37 مليار دولار بحلول عام 2032، وذلك بمعدل نمو سنوى مُركَّب نحو 40%، ومن حيث الترتيب العالمى للدول فى صناعة بناء السفن فى عام 2022، فقد هيمنت منطقة شرق آسيا على تلك الصناعة؛ إذ استحوذت الصين وكوريا الجنوبية واليابان على 93% من إجمالى الإنتاج العالمى.
وأوضح التحليل أن الصين وكوريا الجنوبية تُعد من أبرز التجارب الدولية فى مجال النهوض بصناعة بناء السفن واحتلال الريادة عالميًّا فى هذا المجال؛ ويرجع ذلك إلى السياسات الحكومية المُتبعة فى تلك الدول والتى كان لها المردود الإيجابى فى تحقيق الهدف منها، فقد أولت جمهورية الصين الشعبية أهمية كبيرة لصناعة بناء السفن، وذلك من خلال التعامل معها كصناعة استراتيجية تدعم التنمية الاقتصادية، واعتماد سياسات مختلفة لتعزيز تلك الصناعة، ومن أبرز تلك السياسات ما يلي:
- تشجيع تصدير السفن فى ثمانينيات القرن العشرين: حيث جعلت الحكومة الصينية تصدير السفن إلى السوق العالمية أحد التدابير المهمة للإصلاح الاقتصادى وسياسة الباب المفتوح، التى اعتمدتها فى عام 1979، واعتبرت تطوير صناعة بناء السفن مهمة استراتيجية.
- تقديم الحكومة الصينية سياسات محفزة لصناعة بناء السفن: وذلك فى تسعينيات القرن العشرين، اقتداءً بنجاح التجارب اليابانية والكورية، بما فى ذلك تقديم الدعم، والقروض الميسرة، والحوافز الضريبية لشركات بناء السفن، والاستثمار المباشر الواسع فى صناعة بناء السفن، كما تبنَّت الحكومة الصينية سياسة "المالك المحلى لبناء السفن" لدعم أحواض بناء السفن الصينية.
- وضع الحكومة الصينية فى أغسطس 2006 خطة تنمية متوسطة وطويلة الأجل (2006 - 2015) لصناعة بناء السفن، وذلك ضمن هدف أكبر وهو جعل الصين أكبر دولة لبناء السفن فى العالم بحلول عام 2015.
- إصدار وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينية (MIIT) فى يونيو 2009 خطة إعادة هيكلة وتنشيط صناعة بناء السفن، وذلك بعد أزمة ركود تجارة السفن نتيجة الأزمة المالية العالمية فى عام 2008، وهدفت الخطة إلى توفير التمويل اللازم لأحواض بناء السفن، وتقديم الدعم الفنى والمالى.
- إطلاق الخطة الخمسية الثانية عشرة فى ديسمبر 2011، والتى ركزت على تعزيز الابتكار التكنولوجى والاستثمار فى البحث وتطوير تكنولوجيا صناعة بناء السفن، وإعادة الهيكلة من خلال الاندماج والاستحواذ، وتحسين جودة بناء السفن ونظام الإدارة لتعزيز القدرة على المنافسة، وتحسين ترويج صناعة بناء السفن.
- إطلاق خطة دعم بناء السفن لمدة ثلاث سنوات وذلك فى يونيو 2013، بهدف إنقاذ صناعة بناء السفن المتعثرة، والحفاظ على حصة الصين فى السوق العالمية لبناء السفن، وتحقيق حصة سوقية عالمية بنسبة 20٪ و25٪ للسفن عالية التقنية والمرافق البحرية على التوالى، من خلال التركيز على تسريع الابتكار التكنولوجى وتطوير تكنولوجيا التصميم والبناء للمنتجات البحرية، وزيادة العرض المحلى للمعدات البحرية والشاطئية الرئيسية، بالإضافة إلى دعم المنتجين المحليين وتوسيع الدعم المالى للاندماج والاستحواذ وجذب المشترين الأجانب.
وتعتمد الصين على تمويل السفن كسياسة تحفيزية لتقديم الدعم لأحواض بناء السفن المحلية وتعزيز الأسطول الصيني؛ ففى النصف الأول من عام 2017 أنفقت الحكومة الصينية ما قيمته 17.7 مليون دولار للصناعة بهدف تشجيع تطوير تصميمات جديدة للسفن، وقد ذهب معظم هذا التمويل إلى تصميم مشروعات لناقلات النفط الكبيرة.
أما عن تجربة كوريا الجنوبية فقد بدأت حكومة كوريا الجنوبية أولى خطواتها فى ريادة صناعة بناء السفن عالميًّا من خلال تنفيذ سياسات تُشجع تلك الصناعة، والتى بدأت بإصدار "قانون تشجيع بناء السفن" فى عام 1958، إلا أن القانون لم يحقق أى إنجاز بسبب نقص الميزانية، ثم تحولت بعدها الجهود الحكومية إلى اتخاذ مجموعة من التدابير والسياسات، من أهمها:
- إعلان الحكومة الكورية عن "خطة إعادة هيكلة صناعة بناء السفن وتعزيز القدرة التنافسية" لعام 2009، بمشاركة العديد من الوزارات؛ بهدف إعادة هيكلة شركات بناء السفن المتأخر تسليمها، وحل الصعوبات المؤقتة المتعلقة بالتمويل فى أحواض بناء السفن التى تفاقمت جراء الأزمة المالية العالمية.
- كشفت وزارة المحيطات ومصايد الأسماك بكوريا فى أبريل 2018 عن خطة إحياء تهدف إلى بناء 200 سفينة بما فى ذلك 60 حاوية و140 ناقلة للبضائع السائبة خلال ثلاث سنوات، ووفقًا للخطة يتم دعم مالكى السفن بنسبة تصل إلى 10٪ من تكلفة بناء الهيكل الجديد إذا استبدلوا بسفنهم القديمة سفنًا جديدة صديقة للبيئة.
- أنشأت الحكومة الكورية فى يوليو 2018 شركة كوريا لأعمال المحيطات (KOBC)، برأس مال أولى بلغ 2.77 مليار دولار، والتى هدفت إلى دعم صناعة الشحن وبناء السفن المحلية من خلال الاستثمار فى السفن الجديدة وتوفير ضمانات الدفع لطلبات البناء الجديدة، وتقديم خدمات استشارية للاستثمارات فى الصناعة البحرية.
- إطلاق "الاستراتيجية الوطنية الأولى لتطوير وتعميم السفن الخضراء (2021 - 2030)" وذلك فى ديسمبر 2020، حيث تركز الاستراتيجية على التقنيات المتقدمة الخالية من الانبعاثات التى تُمكِّن من التخلص التدريجى من انبعاثات الغازات الدفيئة (GHG) بنسبة تصل إلى 70% بحلول عام 2030، وذلك فى مجالات تصميم السفن والوقود المستقبلى والطاقة المتجددة والمعدات؛ حيث تستهدف الاستراتيجية تحويل 15% من السفن التى ترفع العلم الكورى إلى سفن أكثر اخضرارًا.
- نشر قانون رقم 19909 الخاص بتعزيز تطوير وتسويق السفن ذاتية القيادة وذلك فى يناير 2024، والذى يهدف إلى تعزيز تطوير التكنولوجيا والمعدات الرئيسة لتلك السفن، ووضع الأساس لتشغيلها الآمن، بالإضافة إلى إنشاء نظام لوجستى بحرى لتسويقها.
وأشار التحليل إلى أنه فى ظل الأهمية الاقتصادية لصناعة بناء السفن عالميًّا، وأهميتها الاستراتيجية فى دولة كمصر، التى تمتلك إمكانات تدعمها لتلعب دورًا محوريًّا فى تلك الصناعة بمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، تسعى الحكومة المصرية لتوطين صناعة بناء السفن وتعزيز مكانة مصر كمركز إقليمى للصناعات البحرية، ولتحقيق ذلك تم تنفيذ العديد من الجهود والمبادرات فى هذا القطاع، ومن أبرزها:
- إطلاق برنامج تطوير صناعة السفن وفقًا لاستراتيجية الدولة من أجل تطوير قطاع النقل البحرى واللوجستيات حتى عام 2030، وذلك ضمن رؤية 2030 التى تم إطلاقها فى فبراير 2016، ويهدف البرنامج إلى توطين وتطوير الصناعة فى مصر بحلول عام 2030.
- تتبنى وزارة النقل خطة شاملة لتطوير قطاع النقل البحرى واستعادة قوة الأسطول التجارى المصري؛ وذلك بهدف جعل مصر مركزًا عالميًّا للتجارة واللوجستيات، وتستهدف الوزارة الوصول بحجم أسطول الشركات التابعة لها، (وهى شركات: الملاحة الوطنية - الجسر العربى للملاحة - القاهرة للعبارات - المصرية لناقلات البترول)، إلى 31 سفينة بحلول عام 2030، وذلك لزيادة قوة الأسطول المصرى بحيث يصبح قادرًا على نقل 20 مليون طن بضائع سنويًّا من البضائع الاستراتيجية كالحبوب والنفط، ونقل الركاب بين مصر وباقى دول العالم.
- تطوير الترسانة البحرية بالإسكندرية، وهى أقدم شركة فى مصر والشرق الأوسط فى مجال بناء وإصلاح السفن، وتضمنت عملية التطوير رفع قدرة وكفاءة الشركة الفنية، وقد نجحت الشركة بعد تطويرها فى تدعيم الأسطول البحرى لشركات البترول الوطنية وشركة التعاون للبترول، من خلال تقديم ناقلتى بترول مزدوجة البدن حمولة 1600 طن، والقاطرة "درويش" إلى هيئة ميناء الإسكندرية، بالإضافة إلى تصنيع أولى قاطرات الجيل الجديد من طراز (ASD) بقوة شد 90 طنًّا لتكون نواة أسطول القاطرات البحرية بهيئات موانى جمهورية مصر العربية.
- إنشاء شعبة جديدة لصناعة وبناء السفن كشعبة تابعة لغرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات المصرية فى يناير 2023، وتضم فى عضويتها نحو 70 شركة عاملة بالمجال، وتتركز خطة عملها فى تعزيز التعاون بين شركات الشعبة من أجل توطين صناعة وبناء وإصلاح السفن.
- إنشاء جامعة تكنولوجية جديدة بقناة السويس تضم تخصص صناعة بناء السفن.
وأوضح التحليل أن مصر لم تكن بعيدة عن مجال صناعة بناء السفن؛ فهى تمتلك عددًا من الترسانات البحرية كترسانات (بورسعيد وبورتوفيق والسويس والإسكندرية)، والتى يمكن أن تساهم فى توطين هذه الصناعة، كما تُوجِّه مصر جزءًا من تلك الصناعة لديها إلى الخارج، ففى عام 2022 صدَّرت مصر سفنًا وقوارب وعائمات بما قيمته 3.2 ملايين دولار، وكان عام 2021 هو الأعلى فى قيمة الصادرات خلال الفترة (2019 - 2022)، حيث بلغت صادراتها آنذاك نحو 67.4 مليون دولار.
وأفاد التحليل فى ختامه أنه فى الوقت الذى تُعَد فيه صناعة بناء السفن من الركائز الاستراتيجية للتجارة الدولية والاقتصادات الوطنية، أظهرت التجارب الدولية، مثل تجربة الصين وكوريا الجنوبية، مدى تأثير تبنى استراتيجيات تنافسية على تحقيق الريادة العالمية. هذا، وتقدم تجربة مصر نموذجًا ناشئًا يُظهِر الإمكانات الواعدة لهذه الصناعة فى المنطقة، خاصة مع موقعها الجغرافى الاستراتيجى.