بينما نتطلع دائما، رافعين رؤسنا وشاخصين بأبصارنا، باتجاه العالم المتقدم ودوله المختلفة، محاولين التماس أسباب التقدم، وعاقدين مقارنات شاملة بين أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأوضاع المواطنين فى هذه الدول، ندير ظهرنا تماما فى قضايا أخرى، ولا نلتفت للمقارنة بأى وجه من الوجوه، لهذا يمكن أن يفاجئك نائب برلمانى مثل محمد أبو حامد، وكيل لجنة التضامن الاجتماعى بمجلس النواب وعضو المجلس عن ائتلاف دعم مصر، ائتلاف الأغلبية، بتقديم مشروع قانون لتخفيض سن خروج القضاة إلى المعاش من 70 إلى 60 سنة، فهل يعلم السيد المبجل سن المعاش فى دول العالم؟ دعك من حالة الساحة القضائية المصرية وما تشهده المحاكم من زحام وتكدس للقضايا وعجز فى أعداد القضاة، فإن كان لا يهتم النائب المحترم بمسيرة العدالة والعمل على دعمها وتسريع خطواتها، فربما يهتم بألا نكون بدعة فى الأمر، أو حينما نختلف عن دول العالم المختلفة، يكون الاختلاف سلبيا ومشبوها ومثيرا للحرب والصراع.
فى الولايات المتحدة لا يوجد سن تقاعد لقضاة المحكمة العليا، يمكنهم العمل مدى الحياة، ويحق لهم التقاعد بقرار شخصى، بينما يُختارون أصلا من القضاة الذين تجاوزا 70 سنة وقضوا 10 سنوات على الأقل فوق منصة القضاء، وفى البرازيل يظل قضاة المحكمة العليا مدى الحياة أيضا، وقضاة المحكمة الأخرى يحق لهم طلب التقاعد بعد سن الـ70، ولا يكون الأمر إلا بطلبهم أيضا، وفى المجر وجنوب أفريقيا لا يكون التقاعد إلا بعد 70 سنة، وفى كندا لا يتقاعد قضاة المحكمة العليا إلا بعد 75 سنة، وينخفض السن لـ70 سنة فى حالة القضاة الفيدراليين، وهو السن الذى يتقاعد عنده القضاة فى مصر، ولكن يبدو أنه لا يعجب محمد أبو حامد، أو أن لديه غرضا آخر لا نعلمه ولم يفصح عنه، لهذا تقدم بمشروع قانون لتخفيضه لـ60 سنة، وهو أمر يهدد حالة التقاضى فى مصر، وينذر بإشعال معركة قد تطال نارها الجميع.
حكاية سن القضاة.. من تعديل 2007 حتى مشروع أبو حامد
فى وقت سابق كان سن تقاعد القضاة 60 عاما، وتحديدا فى القانون 46 لسنة 1972، ولكن مع تصاعد الأحوال الاجتماعية والسياسية، وتزايد عدد السكان وحجم التقاضى، إضافة إلى وجود عجز فى الكوادر القضائية، تم مدّ السن إلى 64 سنة عبر تعديل تشريعى فى العام 1993، لحقه تمديد آخر فى 2002 وصل بالسن إلى 66 سنة، قبل أن يصل إلى 70 سنة فى مايو 2007، بعد موافقة مجلس الشعب برئاسة الدكتور فتحى سرور وقتها على التعديل بأغلبية 248 نائبا، من إجمالى 454 أعضاء المجلس آنذاك.
عقب التعديل الأخير قبل 10 سنوات من الآن، استقر سن التقاعد للقضاة عند 70 سنة، وظل الأمر قائما ومستقرا حتى الآن، لم يزحزح استقراره حديث نائب برلمانى أو آخر عن وجوب تعديل السن، سواء فى البرلمان الذى سيطرت عليه جماعة الإخوان الإرهابية عقب ثورة 25 يناير، أو فى البرلمان الحالى، ومنها اقتراح النائب إيهاب الخولى بالنزول بالسن إلى 65 سنة، واقتراح مصطفى بكرى بتمديده ليصبح 72 سنة، ولدى كل منهما أسباب يسوقها للترويج لاقتراحه، فالأول يرى أن كفاءة الأداء تقل بعد تجاوز منتصف العقد السابع من العمر، وأنه لا حاجة لتمديد سن القضاة، والآخر يرى أننا نعانى من عجز فى أعداد القضاة، ولا نمتلك رفاهية التخلى عن قضاة كبار وأصحاب خبرات واسعة تكثل دعمًا للمنظومة القضائية ولساحة العدالة المصرية، إذ يفيد وجودهم فى الخدمة القضاة الشباب وينمى قدراتهم عبر الاحتكاك والتعامل المباشر، إلى جانب ما يوفرونه من حضور قوى ومؤثر فى الهيئات القضائية المختلفة، وفى محكمتى الاستئناف والنقض بشكل خاص، وهما المحكمتان اللتان تضمان أكبر عدد من القضاة فوق سن الستين، وتمثلان الذخيرة الأساسية والقوة الضاربة لمنظومة القضاء والعدالة المصرية.
حالة الاستقرار القائمة منذ 10 سنوات، يبدو أنها كانت على موعد اليوم مع تهديد صعب وقاس، بإعلان النائب محمد أبو حامد عن إعداده لمشروع قانون جديد لتخفيض سن خدمة القضاة لـ10 عاما، وبينما يتضح من رحلة السن خلال العقود السابقة، ومن اقتراحى الخولى وبكرى، أن الأمر كان يتم طوال الوقت بشكل تدريجى ووفق رؤى مرحلية، يأتى اقتراح "أبوحامد" حاملا قفزة زمنية ضخمة، يبلغ مداها 10 سنوات، وتشمل وفق تقديرات مصادر قضائية مطلعة ما يقرب من ثلث تعداد قضاة مصر، وهو ما يمكن أن يحمل تهديدا حقيقيا لمنظومة القضاء المصرية، ويمثل لعبًا مباشرا بالنار فى منطقة مهمة وحيوية، ولا تحتمل التجربة واللعب بالنار، خاصة مع تراكم آلاف القضايا فى جداول المحاكم المختلفة، والحديث الدائم عن عجز واضح فى أعداد القضاة، وعن بطء منظومة التقاضى، فهل يدرك ائتلاف "دعم مصر" أن نائبه المبجل وهو يقدم هذا المقترح، يلعب بالنار ويهدد مصالح المواطنين، قبل القضاة، ويهدد عمل البرلمان نفسه؟.
لماذا الآن؟ وما موقف الدستور من تهديد محمد أبو حامد؟
ربما يبدو الموقف واقتراح محمد أبو حامد بشأن سن القضاة، عبر مشروعه القانونى الجديد، أمرا عاديا، فنحن أمام نائب يستخدم حقه الدستورى والقانونى لتقديم تشريع جديد للمجلس، وعلى النواب دراسته وإقراره أو رفضه، ولكن وسط حالة الصراع والشجار التى تشهدها الساحة السياسية المصرية، على صعيد مواقف البرلمان والقضاة عقب مشروع قانون النائب أحمد حلمى الشريف، عضو مجلس النواب عن ائتلاف دعم مصر، لتعديل قانون الهيئات القضائية فيما يخص ضوابط تعيين رؤساء الهيئات، لا يمكن اعتبار الأمر بريئا بدرجة كاملة، ويحق لأى شخص أن يفترض الاحتمال الأسوأ فى الأمر، وهو أننا ربما نكون أمام مناورة، أو مساومة من "أبوحامد"، وربما يقف وراءه آخرون، خاصة بعد اعتراض الهيئات القضائية المختلفة على مشروع "الشريف"، ومع عضوية النائبين فى ائتلاف الأغلبية، فالأمر يقبل الافتراض سيئ النية بشأن غياب البراءة الكاملة عن الاقتراح بهذه الصيغة وفى هذا التوقيت بالتحديد.
لا شك فى أن القانون والدستور يكفلان للنائب محمد أبو حامد تقديم أى مشروع قانون يريد تقديمه، ولكن الدستور نفسه نص على الفصل بين السلطات، ومنها التشريع والقضاء، وأوجب استطلاع آراء القضاة فيما يخص شؤونهم، بينما تحمل الممارسة العملية حالة من التكامل التى لا تقبل الفصل، فما يقضى به القضاة يصيغه النواب تحت قبة البرلمان، ومن مصلحة الجميع أن يكون الوفاق شعارا مرفوعا من الطرفين، حرصا على منظومتى التشريع والعدالة، خاصة أن قوانين البرلمان ترتبط بجهات قضائية أخرى، ويمكن للمحكمة الدستورية العليا إبطال أو إلغاء أى مشروع منها، وهنا فإننا نقف إزاء احتمالات صراع وخطر لا تحتملها مصر فى الوقت الراهن، هذا بالطبع إلى جانب شبهة عدم الدستورية التى قد تلحق بالمشروع لأسباب عديدة، ولعل فى حكم المحكمة الإدارية العليا قبل سنتين إشارة كاشفة على الأمر، إذ قضت بشكل نهائى بتأييد الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى، بعدم اختصاصها فى نظر الدعوى القضائية المطالبة بإلغاء القرار بقانون رقم 159 لسنة 2003، بشأن مد سن تقاعد القضاة لـ70 سنة، ورفضت طلب الدعوى المنظورة أمامها بإحالة كل من بلغ 66 سنة من أعضاء الهيئات القضائية إلى المعاش، قائلة فى حيثيات حكمها إن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح مقصورة على المحكمة الدستورية العليا وحدها دون غيرها من جهات التقاضى، والقانون استلزم أن يكون هناك نزاع ذو موضوع يثير مسألة دستورية بخصوص نص قانونى يلزم الفصل فى موضوع النزاع، ومن ثم فإذا كان لُبّ النزاع مسألة دستورية، دون أن يكون هناك موضوع آخر لهذا النزاع يثير هذه المسألة الدستورية، يصبح النزاع بمنأى عن الاختصاص الولائى للمحكمة أو للهيئة ذات الاختصاص القضائى التى أقيم أمامها النزاع.
هل تحتمل المحاكم فاتورة اقتراح محمد أبو حامد؟
إذا تجاوزنا مسألة التوافق، ومخاوف الصراع، وسبب الاقتراح فى هذا الوقت بالتحديد، وهل يحمل مناورة أو مساومة للقضاة فى قضية اعتراضهم على تعديلات قانون الهيئات القضائية، يتبقى لنا السؤال الأهم والأكثر تأثيرا، وهو هل يمثل هذا الاقتراح تهديدا بمذبحة واسعة للقضاة؟ وهل تحتكم محاكم مصر فاتورة هذا الاقتراح الغريب وقتا ومضمونا؟.
وفق أقرب الأرقام المسجلة وأوثقها، ومنها عضويات نادى القضاة التى تتجاوز 9500 عضوا، إضافة إلى أرقام ومؤشرات عن أعضاء الهيئات القضائية المختلفة، فإننا نقف إزاء عدد قضاة إجمالى فى مصر يتراوح بين 10 و17 ألف قاض، فبحسب تصريحات لرئيس محكمة استئناف الاسماعيلية لا يتجاوز 10 آلاف قاض، بينما قال المستشار عبد الله فتحى، رئيس نادى القضاة السابق، إن عدد قضاة مصر لا يتجاوز 14 ألف قاض، وبحسب مصادر أخرى فإن العدد يصل إلى 17 ألفًا، وإذا أخذنا متوسطا لهذه الأرقام فإننا نكون إزاء عدد يتراوح بين 13 و15 ألف قاض، تؤكد مصادر مطلعة أن نسبة من يتجاوزون سن الستين منهم تتراوح بين 25 و30%، ما يعنى أن اقتراح محمد أبو حامد سيطيح بعدد يتراوح بين 3 و5 آلاف قاض، وبينما تزدحم المحاكم المصرية بآلاف القضايا، يطول أمد التقاضى فى بعضها ليصل إلى سنوات، فإننا ربما نكون أمام خطر حقيقى يهدد ساحة العدالة ومصالح المواطنين المرتبطة بالقضاء ارتباطا مباشرا؟ فهل نحتمل هذه الفاتورة؟ وهل نحتمل أصلا فكرة اللعب بالنار وتأجيج الصراع؟ الحقيقة أن الإجابة لدى محمد أبو حامد وحده، والموقف العملى يملكه ائتلاف "دعم مصر" الذى يتبعه النائب.