يعرف الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب أن «هناك قلة تخطف النصوص المقدسة لصالحها والإسلام منهم برىء»، وقد كانت وثيقة الأزهر هى الوثيقة التى مثلت منطلقا للبناء عليها، وقد تفاعل معها كل المهمومين بالتجديد الدينى فى مصر والوطن العربى والعالم، فالأزهر هو قبلة الإسلام فى العالم وهو المنارة التى عبرت خلال مئات السنين عن الفكر الإسلامى، وساهم الأزهر دوما فى مواجهة الفرقة والمذهبية، ومن خلال أفكار التقريب بين المذاهب، «تجديد الخطاب الدينى» أصبح ضرورة تفرضها الكثير من المتغيرات، تراهن عليها الدولة، والمسلمون الذين يتبرأون من أفكار التطرف والتكفير والقتل، واستعادة وجه الإسلام الحضارى، وأن يحتل الأزهر الشريف مكانته بعيدا عن الخوف والتردد،
والإساءات التى توجه إليه من المتطرفين فى كل الأنحاء، الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب هو الشخص الذى يعلق عليه المسلمون فى كل مكان أن يقود الفكر لاستعادة الإسلام من أيدٍ خبيثة تعادى الأزهر وكل فكر تجديدى، فى مواجهة أفكار داعش وباقى تنظيمات التكفير والدم.
بخطى ناعمة، وأفكار عبرت عنها خطابات خشنة ومتشددة، تسلل التكفيريون بيننا، أغوت أفكارهم مئات الشباب فى القرى والنجوع والأقاليم، وبالمال والسلاح، شكلوا تنظيماتهم، وصار فى بلادنا انتحاريون يرتدون أحزمة ناسفة كانوا قد حملوا مقدار ثقلها من التشدد فى رؤوسهم الشابة بعد عمليات غسل مخ واسعة، غابت عنها أفكار الأزهر وما أسسته المنارة العلمية الوسطية طوال سنوات عديدة، لتخلو الساحة لداعش ويتوغل رويدًا، ومع تصاعد التأثير الداعشى تتصاعد فى المقابل الدعوات لتجديد الخطاب الدينى من كل الفئات وفى المقدمة منهم رأس الدولة الرئيس عبدالفتاح السيسى، من دون أن يجيب أحد عن السؤال المحير: من الذى يعطل تجديد الخطاب الدينى فى مصر وبالتبعية فى العالم الإسلامى باعتبار الأزهر منارة الوسطية لشعوب الأمة؟
«لم تعد فكرة تجديد الخطاب الدينى رفاهية كما كانت من قبل بل صارت فرض عين على العلماء لدفع البلاء عن الأمة بعدما لحق بنا من موت وخراب» تلك مسلمة يتحدث الجميع عن إيمانه بها، لكن المتابع لتاريخ المؤسسة الأزهرية يدرك على الفور المحطات التى مرت بها حتى تداعت أمام هيمنة المتشددين بما لديهم من إمكانات مادية كبيرة تستقطب المتشددين من الشباب.
الإخوان والسلفيون والتكفيريون فى قلب المؤسسة الأزهرية
بخطى ناعمة، وأفكار عبرت عنها خطابات خشنة ومتشددة، تسلل التكفيريون بيننا، أغوت أفكارهم مئات الشباب فى القرى والنجوع والأقاليم، وبالمال والسلاح، شكلوا تنظيماتهم، وصار فى بلادنا انتحاريون يرتدون أحزمة ناسفة كانوا قد حملوا مقدار ثقلها من التشدد فى رؤوسهم الشابة بعد عمليات غسل مخ واسعة، غابت عنها أفكار الأزهر وما أسسته المنارة العلمية الوسطية طوال سنوات عديدة، لتخلو الساحة لداعش ويتوغل رويدًا، ومع تصاعد التأثير الداعشى تتصاعد فى المقابل الدعوات لتجديد الخطاب الدينى من كل الفئات وفى المقدمة منهم رأس الدولة الرئيس عبدالفتاح السيسى، من دون أن يجيب أحد عن السؤال المحير: من الذى يعطل تجديد الخطاب الدينى فى مصر وبالتبعية فى العالم الإسلامى باعتبار الأزهر منارة الوسطية لشعوب الأمة؟
«لم تعد فكرة تجديد الخطاب الدينى رفاهية كما كانت من قبل بل صارت فرض عين على العلماء لدفع البلاء عن الأمة بعدما لحق بنا من موت وخراب» تلك مسلمة يتحدث الجميع عن إيمانه بها، لكن المتابع لتاريخ المؤسسة الأزهرية يدرك على الفور المحطات التى مرت بها حتى تداعت أمام هيمنة المتشددين بما لديهم من إمكانات مادية كبيرة تستقطب المتشددين من الشباب.
منذ عام 1905، وهو العام الذى شهد وفاة الإمام المجدد محمد عبده، لم يأخذ عالم أزهرى أو غير أزهرى على عاتقه مبدأ تجديد الخطاب الدينى، ولم يستطع الأزهر الشريف صد موجة الوهابية التى أثرت على المنبر الأزهرى كمدرسة وسطية مستنيرة بعد أن جذب الخليج بأمواله ونفطه أساتذة الأزهر، للتدريس فى جامعاته الثرية وصار الحفاظ على الأزهر كمدرسة وسطية أمراً مستحيلاً، ناهيك عن ظهور إمام للتجديد، غير أن تعاليم محمد عبده كمدرسة للتجديد اختفت ولم يعد لها وجود فى الفكر الإسلامى المعاصر.
فى كتابه رسالة التوحيد، شكل الشيخ محمد عبده نقلة نوعية فى طرح قضايا العقيدة وعلم أصول الدين، وذلك لأن هذا العلم كان قد انتهى مع الدراسات الكلامية والفلسفية فى تراثنا إلى أسلوب فى المعالجة أدى إلى تعقيد مفاهيم العقيدة الإسلامية وأفقدها وضوحها وسلاستها وزج بها فى إشكالات تعجز فيها قدرات العقل البشرى عن الحسم والتقرير، فجاء محمد عبده بكتابه هذا ليثور على هذا النمط من المقاربات، وينتهج منهجا جديدا مستفيدا من المنهج القرآنى فى عرض العقيدة وإيضاح مفاهيمها.
وانطلاقا من رؤيته الجديدة رفض الشيخ محمد عبده الرضوخ للجمود والتقليد وإعادة إنتاج المعرفة بطريقة سلفية، تجتر الماضى لإعادة إنتاجه فى الواقع العربى الإسلامى، وكان رائدا من رواد النهضة، إذ حث على استعمال العقل قبل النقل أحيانا لأنه أدرك عدم وجود تناقض بين الدين والعقل وأن المقصد الأساسى للشريعة هو كسب الإنسان لحريته وتحرر مجتمعه كغاية ضد كل أنواع القيود المكبلة له، ولو كانت هذه القيود من صنع الدين نفسه والمقصود هنا بالدين تلك الرؤى التى تقدس التراث وتجعل منه الماضى والمستقبل فى آن واحد، كذلك فإن جمال الدين الأفغانى الذى تتلمذ على يديه الشيخ محمد عبده، عرف بمناصرته لكل قضايا أمته ضد الاستعمار فانتقل من مكان إلى مكان ينشر أفكاره التقدمية ومحرضا ضد الاستعمار، وشكل الثنائى نموذجا فى تلك المرحلة للثورة والتمرد ضد كل أنواع التخلف الفكرى والاستبداد السياسى من أجل مشروع نهضة فكرية تحرر الأمة من ما غرقت فيه من جهل وخرافة واستبداد سياسى باسم الدين.وكانا يخوضان التجربة على مستوى الواقعى الميدانى تماما كما يخوضانها على المستوى النظرى والفكرى.
إفراغ الساحة من المجددين وأصحاب الأفكار المستنيرة، دفع المتشددين للتسلل إليها والسعى حثيثا وبكل الوسائل لملء هذا الفراغ، وبات الأزهر الشريف منذ عقود طويلة مطمعًا لجماعات الإخوان والسلفيين، ويرجع الدكتور محمود جابر، وهو باحث متخصص فى الحركات الإسلامية محاولات اختراق الأزهر من قبل الوهابيين إلى العام 1926 حين بدأ استقطاب محب الدين الخطيب ورشيد رضا للترويج للأفكار المتشددة عبر ما أطلق عليه وقتها ثورة فقهية.
فى عام 1930 وفقًا لجابر بدأت محاولات دس كتب ابن القيم وابن تيمية فى المناهج الأزهرية، بعد أن كانت ممنوعة من دخول الأزهر لمدة مائتى عام ولكن الشيخ الدجوى انتبه لذلك واتهم ابن تيمية بالخروج عن تعاليم الإسلام، ثم توالت بعد ذلك محاولات الاختراق عبر التعامل مع أزهريين يؤيدون الأفكار المتشددة مثل يوسف القرضاوى ومحمد عمارة.
وفى الستينيات، بدأ المد يأخذ طريقه الحقيقى فى الانتشار خاصة مع تنامى خصومة عبدالناصر والإخوان، وأصبحت المناصب الجامعية فى الجامعات التى تروج للأفكار الوهابية أحد أهم المغريات التى يتم بها استقطاب الأزهريين.
أما فى عصر السادات، فزادت حدة الاختراق فى ظل التوافق الذى حدث بين الرئيس الراحل والجماعات الإسلامية حتى إن الدعاة السلفيين بدأوا فى الظهور على شاشات التليفزيون ضد أنصار الفكر العلمانى واليسارى، وبرزت مجلات «الصدى النبوى»، التى تتبع دعوة الحق للدكتور سيد رزق الطويل، و«التوحيد» التى تتبع أنصار السنة، و«الاعتصام» التى تتبع الجمعية الشرعية و«الدعوة» التى تتبع جماعة الإخوان المسلمين، وعمل السادات بالتنسيق مع رؤساء الجامعات «الأزهر بالتحديد» على وضع برامج للنشاطات الجامعية داخل الجامعة وبدأ التحكم فيها من قبل جماعات عقائدية مختلفة، بعد أن كانت مؤسسة مستقلة، ثم شكلت العناصر الداعمة للفكر المتطرف، ما يشبه خلايا نائمة داخل جامعة الأزهر فى عصر مبارك.
وفى عام حكم جماعة الإخوان، حاولت تلك الجماعات تمرير مواد فى الدستور ضد الأزهر الشريف، ثم جاءت ثورة 30 يونيو، وانتشرت أعمال العنف فى جامعة الأزهر الأمر الذى كشف للجميع عن سقوط الجامعة فى فخ التشدد سواء عبر انتماء الطلاب لتلك الجماعات أو بعض من الأساتذة الذين تورطوا بالمشاركة أو التحريض وتم القبض على عدد منهم، وفى السنوات الأربعة الأخيرة، تنامى المد السلفى داخل الأزهر، وأسس الطلاب السلفيون أسرة النور والتوحيد وطالبوا بعزل شيخ الأزهر وتعيين محمد حسان ومحمد حسين يعقوب من شيوخهم بدلًا من الدكتور أحمد الطيب، كما حصد الطلاب السلفيون غالبية المقاعد فى انتخابات اتحاد الطلاب بالجامعة خاصة فى كليتى اللغة العربية والدراسات الإسلامية.
يفرق ضياء رشوان الباحث فى شؤون الحركات الإسلامية ورئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بين الجماعات التكفيرية التى تنتهج العنف وبين الإخوان المسلمين والسلفيين وغيرهم من جماعات الإسلام السياسى، كذلك يؤكد أن التيارات الوهابية وإن كانت تنتهج أفكارا متشددة فهى لم ترتكب عنفا منذ ظهورا فى القرن التاسع عشر وحتى الآن، لافتا إلى أن نسبة المصريين المنتمين لداعش أو لجماعات تكفيرية متورطة بالعنف ليست كبيرة بالقياس إلى عدد السكان ولا يمكن اعتبار ظهور بعض الإرهابيين الذين يحملون الجنسية المصرية ظاهرة بالقياس إلى دولة مثل تونس تحمل أعلى نسبة من الفتيات المنتميات لداعش جنسيتها. بدوره يرى الدكتور حامد أبوطالب، عضو مجمع البحوث الإسلامية، أن الأزهر نجح نجاحا باهرا وفشل الإرهابيون، والدليل على ذلك أن هؤلاء الإرهابيين جميعا لم يكن منهم واحد من الأزهر والملايين التى تخرجت من الأزهر ونهلت من منهله لم يتطرف واحد منهم، مضيفا لـ«اليوم السابع»: هذا دليل قوى على أن الأزهر قد نجح واستطاع أن يقضى على الإرهاب بمناهجه الوسطية وواصل أبو طالب: نتحدى إذا كان واحد من هؤلاء الإرهابيين تعلم فى الأزهر، وهم جميعا تعلموا خارج الأزهر ولم ينهلوا من معينه، فما ذنب الأزهر فى ذلك؟.
ويشدد أبوطالب على أن الأزهريين جميعا يقفون فى مواجهة أفكار التكفير، ويعملون بإيجابية على مقاومتها، وذلك منذ تصاعد هذه الأفكار فى فترة الستينيات، عندما ظهرت فكرة التكفير والهجرة، ووقف الأزهر ضد القائمين عليها، مضيفا: الأزهريون الآن على أتم الاستعداد للعمل فى مقاومة هؤلاء التكفيريين بل وهناك من الأنشطة فى الأزهر ما يتصدى لموجات التكفير سواء فى داخل مصر او على المستوى الدولى ويعرف هذا ويشعر به ويؤمن به الدول الأجنبية بدليل أن جميع هذه الدول أصبحت الآن تتعلق بأهداب الأزهر لتعليم أولادهم بدلا عن اى مكان آخر فى الدنيا، اعتمادا على أن الأزهر هو الملاذ وهو الجهة المعتمدة والقادرة على محاربة التكفير والوقوف فى وجهه بقوة.
- اعترف فى حديث تليفزيونى «كلنا خائفون من التجديد».. وأكد: «هناك قلة تخطف النصوص المقدسة لصالحها»
راج مصطلح «تجديد الخطاب الدينى» على مدى السنوات الثلاث الفائتة، خاصة أنه ظل فقرة شبه ثابتة فى كل خطابات الرئيس، ووجد الصدى نفسه فى أحاديث شيخ الأزهر والمثقفين، وكل الذين أدركوا خطورة ما يحاك ضد الإسلام من مؤامرات وجرائم ترتكب باسمه.
«هناك قلة تخطف النصوص المقدسة لصالحها والإسلام منهم برئ» يقول الطيب فى مؤتمر المواطنة الذى انعقد فى فبراير الماضى، ولكنه إذ يؤمن بضرورة تجديد الخطاب الدينى كفقه للحظة والضرورة، يخشى فى الوقت نفسه أن يحل ما حرم الله.
فى برنامج تليفزيونى أذيع فى رمضان الماضى، سرد الطيب قصة الخطاب الدينى على طريقته، فقال إن بعض العوامل السياسية التى أخرت تجديد الخطاب الدينى ظهرت مبكرًا مع قيام الدولة الأموية، والتى ظهر فيها نوع من الاستبداد، ما جعل أفكار علماء الإسلام تبتعد عن الجوانب السياسية والاقتصادية، لتصبح مُنصبة حول الجوانب الفقهية والتعبدية فقط.
وواصل الشيخ أنه «فى عصر الدولة العباسية تجرأ على الفتوى فى الدين من ليس أهلا لذلك، حيث تضمنت فتاواهم أهواء أو أغراضا، ليبدأ المجتمع الإسلامى فى الاضطراب، ما أدى إلى اتفاق العلماء والفقهاء على وقف باب الاجتهاد رسميًا فى ذلك الوقت» مضيفًا: «وقف باب الاجتهاد فى العصر العباسى كان ضرورة فى ذلك الزمان فقط، ولكن هذه السياسة استمرت للأسف حتى الآن، وأصبح التجديد يعد خروجًا أو شذوذًا عن القاعدة، بالرغم من أن الرسول أوصانا بتجديد أمور ديننا كل 100 عام».
وعن أسباب عدم التجديد فى الخطاب الدينى حتى العصر الحالى، رد «الطيب» قائلا: «بصراحة.. كلنا مقصرون وخائفون من التجديد، فهناك من يخاف من أتباعه وآخر يخشى الناس، وثالث لديه ورع زائد على الحد فيقول خلى الأمور كدا عشان ماأتحملش أى حاجة أمام الله»، مؤكدا فى الوقت نفسه ضرورة التخلى عن كل هذه العقبات التى تحول دون تجديد الخطاب الدينى وتجعله جامدًا، مستطردا: «يجب أن ننزل إلى الناس ونرى واقعهم، لنقدم شريعة تسعد وتريح المسلمين، فى إطار ضوابط النص القرآنى والمقاصد العليا للشريعة والمعايير الأخلاقية».
وعلى الرغم من إيمانه الشديد بجرم ما تفعله داعش فإنه يرفض فى الوقت نفسه تكفيرهم، لعدة أسباب أهمها أن عقيدة الأشاعرة التى أقيم عليها الأزهر الشريف، تقوم على عدم تكفير أحد يقول لا إله إلا الله حتى وإن كان يفعل الكبائر كالقتل كما تفعل داعش، حيث إن الأمر مفوض إلى الله، ولا يجوز تكفير أحد إلا إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة، كما أن التكفير لدى الأزهر له ضوابط.
يوضح الشيخ: لكى نكفر شخصا يجب أن يخرج من الإيمان وينكر الإيمان بالملائكة وكتب الله من التوراة والإنجيل والقرآن، ويقولون: لا يخرجكم من الإيمان إلا إنكار ما أدخلت به، ويضيف: «ما حكم شخص يؤمن بتلك الأمور ويرتكب إحدى الكبائر، هل يصبح كافرا؟» وهناك مذاهب أخرى، تقول إن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو مؤمن عاص، فلو أنه مات وهو مصرٌّ على كبيرته لا تستطيع أن تحكم عليه أنه من أهل النار، فأمره مفوض لربه.
ولا ينسى الشيخ أن يحاكم هؤلاء وفقا لشرع الله، فيقول إن الله قد حكم عليهم فى كتابه مستشهدا بالآية الكريمة: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم»، مضيفاً أن الأزهر لا يحكم بالكفر على شخص، مادام يؤمن بالله وباليوم الآخر، حتى ولو ارتكب كل الفظائع، «فداعش لا أستطيع أن أكفرها، ولكن أحكم عليهم بأنهم من المفسدين فى الأرض، فـ«داعش» يؤمن بأن مرتكب الكبيرة كافر فيكون دمه حلالاً، فأنا إن كفرتهم أقع فيما ألومهم عليه الآن».
الطيب.. فقيه فى ملاعب السياسة
لم يكن للطيب أى علاقة بالسياسة من قريب أو من بعيد، إلا أن عصر مبارك كان قد شهد حرص الحزب الوطنى المنحل على ضم الكفاءات النادرة فى جميع مجالات الحياة إلى صفوفه، يشكل منهم الحكومة ويختار منهم الوزراء، ولم يكن غريبًا أن يسعى الحزب الحاكم وقتها إلى ضم الدكتور أحمد الطيب، الأستاذ بجامعة الأزهر، والذى سيصبح رئيسا للجامعة فيما بعد ثم شيخًا للأزهر.
بعد توليه منصب شيخ الأزهر، هاجمته الصحافة التى رأت أن عضويته فى الحزب الوطنى تقلل من استقلالية المؤسسة الدينية العريقة، إلا أن الشيخ العنيد كان يؤمن بعدم وجود تعارض بين الاثنين، لكن الأمر لم يدم طويلا حتى أعلن الرجل استقالته من الحزب، رادا فى الوقت نفسه على من يتحدثون عن احتمالية تبعية الأزهر للنظام السياسى بالقول: «إن مؤسسة الأزهر لا تحمل أجندة الحكومة على عاتقها، لكن الأزهر لا ينبغى أن يكون ضد الحكومة، لأنه جزء من الدولة وليس مطلوبا منه أن يبارك كل ما تقوم به الحكومة، وعندما جئت شيخا للأزهر وافق الرئيس مبارك على استقالتى من عضوية المكتب السياسى للحزب الوطنى، كى يتحرر الأزهر من أى قيد».
عندما اندلعت ثورة 25 يناير 2011، تحفظ الأزهر فى البداية قلقًا من احتمالات التخريب، وكذلك فعلت الكنيسة، إلا أن الإمام الطيب كان مشددًا على الحقوق المشروعة للشعب فى العدل والحرية والعيش الكريم، وفى الوقت نفسه معبرا عن القلق والرفض لأى عمل يؤدى إلى إراقة الدماء وإشاعة الفوضى فى البلاد، ففى بيان له يوم «29 يناير» وصف الطيب مطالب المتظاهرين بالـ«عادلة»، ولكنه حذر من الفوضى.
وبعد خطاب مبارك الثانى، عاد الشيخ الطيب ليصف التظاهر فى التحرير، قائلا إن «المظاهرات بهذا الشكل حرام شرعا، ودعوة للفوضى»، معربا عن أسفه الشديد لاشتباكات «موقعة الجمل 2011م»، مشددا على ضرورة التوقف فورا عن «العصبية الغاشمة»، وكرر دعوته للشباب المتظاهر للتحاور، ودعا أيضا للتعقل ورأب الصدع والحفاظ على الأمن وقطع السبيل أمام محاولات التدخل الأجنبى، لأن «الأحداث يراد بها تفتيت مصر «، وبعدما أعلن حسنى مبارك مبارك نقل سلطاته إلى نائبه عمر سليمان، حذر الطيب من استمرار المظاهرات التى أصبحت «لا معنى لها» و«حرام شرعا» بعد انتهاء النظام الحاكم وتحقيق مطالب الشباب.
بعد ثورة يناير وتنحى مبارك، عاشت البلاد أوضاعًا اقتصادية صعبة، فما كان من الشيخ إلا أن تطوع برد كل المبالغ التى تقاضاها كراتب نظير عمله كشيخ للأزهر للدولة، وذلك دعمًا للاقتصاد المصرى فى إبريل 2011، وفى زمن حكم جماعة الإخوان، شعر الإمام الأكبر بالخطر وسط محاولات كثيرة لإزاحته عن مقعده، ثم تزاح الجماعة عن الحكم، ويصبح الشيخ جزءا من مشهد الثالث من يونيو إلى جانب البابا تواضروس الثانى وقيادات العمل الوطنى ليبارك ثورة الجيش والشعب، وبعدها يأتى الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى سدة الحكم، ليؤكد فى مرات كثيرة حبه وتقديره للمؤسسة الأزهرية العريقة، لكنه ينهال عليها بالمطالب، وعلى رأسها تجديد الخطاب الدينى الذى صار مطلبا أساسيا للرئيس، ثم مطالبته بعدم إقرار وقوع الطلاق الشفوى، ومطالب كثيرة يستجيب الطيب لبعضها ويستدعى هيئة علمائه لتدارس البعض الآخر، ولكنه يحرص على الحفاظ على استقلالية قراره، وأزهريته دون أى ضغوط.
«الصوفى» فى مواجهة الجميع
فى القرنة.. كما فى مئات من القرى تحيط بأولى عواصم مصر وحاملة مفاتيح العشرات من أعظم شواهدها الحضارية.. هناك فى « طيبة» وحولها يجتمع كل ما يمكن أن يصيب الروح بتجليات المس الصوفى.. ففى قلبها وحولها شواهد حضارية صمدت لآلاف السنين، وفى القلب منها أيضا مساجد لأولياء يقصدهم المريدون من شمال البلاد وجنوبها، وعلى بعد بضعة كيلومترات منها، حيث مدينة نقادة، تحتضن جبالها أقدم الأديرة المسيحية، فى القرنة أيضا وهى إحدى توابع «طيبة» منازل فى أعلى الجبال وبيوت فى أحضانها، وفوق الجبل أو بجواره تستطيع أن ترى النيل وهو يجرى على مرمى البصر، وبين الجبال والنهر مزارع خضراء تارة، وبيوت عرفت أخيرا طريق الأعمدة الخرسانية وهجرت الأحجار والطوب اللبن.. فى وسط تلك البيئة تسحر الأرواح، فإما إلى صوفية صافية وإما إلى فن راق أو أدب ما بين رواية وشعر.. هناك كانت نشأة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، بين عائلة قائدة لواحدة من الفرق الصوفية المنتشرة فى تلك المنطقة من صعيد مصر، وهى الطريقة الخلوتية، وساحتهم مقصد للمريدين من كل مكان فى أنحاء البلاد، وكم انتهت بين جوانبها نزاعات وصلت إلى حد الاقتتال وفتحت أبوابا للثأر لم يغلق إلا على أيدى «آل الطيب».
بتلك النشأة الصوفية، كانت الوجهة الطبيعية للطفل أحمد الطيب نحو الأزهر، بتعليمات صارمة من الأب، وبصوفيته تلك انتقل من أقصى الصعيد إلى باريس «عاصمة الجن والملائكة» لاستكمال دراساته العليا، وعاد منها إلى القاهرة، أستاذا بجامعة الأزهر ومنها إلى مقعد المفتى فكرسى المشيخة.
معارك عدة خاضها الشيخ على مدى مشوار حياته، وجميعها تعامل معها بصوفية، بدءا من اختيار والده لمساره الدراسى، ومرورا برفضه الاستقالة من أمانة السياسات بالحزب الوطنى، عندما تم تعيينه شيخا للأزهر، حيث كان يرى أن الأزهر ليس مؤسسة معارضة للحكومة أو للحزب الحاكم، كما أنه ليس أداة للترويج لسياساتهما، وعاد ليستقيل من الحزب فى النهاية.
بعد الإطاحة بنظام مبارك فى ثورة يناير 2011، تعامل البعض مع الشيخ الطيب باعتباره واحدًا من رموز «العهد البائد» من دون اعتبار لمكانته على رأس المؤسسة الدينية الكبرى فى العالم الإسلامى، وبدأت محاولات من قبل جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها فى ذلك الوقت من الجماعات السلفية لإزاحته عن موقعه، عبر تشويه صورته ومواقفه، وكلاهما «الجماعة وأنصارها» لم يستطع إخفاء رغبته فى إزاحة الشيخ وإسناد المقعد الأعلى فى المؤسسة الدينية الكبرى بالعالم الإسلامى إلى واحد من رجالهم، لكن كل المحاولات انتهت بسقوط حكم جماعة الإخوان فى 30 يونيو 2013، وظهر الإمام الأكبر ركنا أساسيا فى مشهد إعلان وزير الدفاع فى ذلك الوقت المشير عبدالفتاح السيسى فى 3 يوليو خارطة الطريق عقب تعطيل العمل بالدستور واختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلى منصور رئيسا مؤقتا للبلاد.
من ضمن المواجهات التى دخلها الشيخ أيضا، مدفوعا بصوفيته وموقعه على رأس المشيخة الأزهرية، إعلانه فى يناير 2011 تجميد الحوار مع الفاتيكان اعتراضا على «التهجم المتكرر» من قبل البابا بنديكت السادس عشر على الإسلام، وإطلاقه دعوات لما سماه بـ«حماية المسيحيين فى مصر» بعد حادث تفجير كنيسة «القديسين» بمدينة الإسكندرية، وأعلن شيخ الأزهر رفضه استئناف العلاقات مع الفاتيكان إلا بعد اعتذار صريح من البابا.
حين أطيح بالجماعة من الحكم لم يسلم الشيخ «الصوفى» من هجوم البعض عليه، ولم يكن ظهور الإمام الأكبر كمساند رئيس لـ«30 يونيو»، ولاعبا أساسيا فى دعم الإطاحة بحكم جماعة الإخوان شفيعا للرجل أو حاميا له من هجوم طاله مؤخرا، خاصة بعد تأكيد هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف وقوع الطلاق الشفوى المستوفى أركانه وشروطه، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق دون اشتراط إشهاد أو توثيق، وذلك بعد دعوة الرئيس السيسى إلى إصدار تشريع يجعل الطلاق لا يتم إلا أمام مأذون، وذلك منعًا لتفكك الأسرة المصرية، وخصوصا بعد ارتفاع نسب الطلاق خلال السنوات الماضية، ووصلت حدة بعض المهاجمين لشيخ الأزهر إلى المطالبة باستقالته من منصبه، وهى الحدة التى تراجعت أيضا مع استقبال الرئيس له بعد أيام من بيان «كبار العلماء»، لكنها لم تقض على رغبة البعض فى الهجوم على الشيخ وجعله طوال الوقت فى حالة مواجهات لا تتوقف.
الجماعة تعمدت تهميش" الطيب" فى حفل مرسى بجامعة القاهرة فانسحب مرددا: «هتبدأوا من أولها»
يفرض مقعد الإمام الأكبر ضوابطه وأحكامه على من يجلس عليه، فهو من ناحية مكلف بنشر الدعوة الإسلامية بصورتها الوسطية، ومن ناحية أخرى عليه أن يصد الهجوم الذى يتسبب فيه من خلطوا السياسة بالدين، وشوهوا صورة الأخير، حتى وإن كانت الأحداث السياسية الأخيرة فى مصر قد ورطت الكل فى اللعبة.
الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، وعبر علاقته بحركات الإسلام السياسى حاول أن يتحلى بالصبر وأحيانًا بالصمت ومرات بالمهادنة، ولكن كل تلك المحاولات لم تصمد أمام تفجر الوضع السياسى فى مصر إزاء حكم الإخوان المسلمين ومن ناصروهم من السلفيين والجماعة الإسلامية، فالتصاق اسم الإسلام بتلك الجماعات السياسية دفع بالأزهر الشريف إلى أن يكون فى مقدمة مشهد الرافضين والمتصدين لما يجرى فى هذا الشأن، وخلق له أدوارًا متعددة لا تقتصر على الحفاظ على مكانته كجامعة إسلامية كبرى تنشر الفكر المستنير فى ربوع الدنيا، وإنما تمتد إلى حمل لواء الدفاع عن الإسلام الوسطى فى مواجهة من يسيئون إليه.
«نحن كأزهريين لا نبدع ولا نفسق المذهب السلفى، ولكن نضعه فى حجمه الحقيقى» يقول الطيب، ويضيف: «ولا يمكن لأزهرى حقيقى أن يقع فى هذا المذهب إلا الأزهريين الذين أصابهم ضعف الدراسة، فلا يوجد أزهرى «ملو هدومه» يتأثر بتلك الأفكار والمذاهب» يؤكد الشيخ بعدما ضاق ذرعًا بأفعال السلفيين وأقوالهم، ويوضح: «جمهور المسلمين لم يكونوا على هذا المذهب فلفظ السلف لم يرد فى القرآن غير مرة واحدة ووردت فى موضع الذم، فهناك تدليس فى استخدام هذا الاسم» يشدد الشيخ.
السلفيون لا يخفون بدورهم عداءهم للإمام الأكبر لأسباب عديدة، أهمها صوفيته، فالإمام الذى ينتسب للمنهج الأشعرى مكفر لدى عموم السلفيين الذين أغلقوا عقولهم على استيعاب النقل وأبطلوا دور العقل فى النص القرآنى، وما تلاه من نهضة كبيرة، التى كان الطيب نفسه من بين علمائها.
«خوارج العصر» هو الوصف الذى استقر عليه الطيب ليصف جموع السلفيين المتأثرين بالأفكار الوهابية تلك التى ترى الدين من الخارج لا من الجوهر، ثم عاد الطيب وأعلى مبدأ لم الشمل الذى يؤمن به والتقاهم أكثر من مرة عقب ثورة 52 يناير، وبالفعل نجحت مساعيه فى لم الشمل إلى حد أن السلفيين كانوا يدافعون عن الأزهر ويطالبون بإقرار مادة له بالدستور.
بعد ثورة 30 يونيو فترت علاقة شيخ الأزهر بالسلفيين مرة أخرى، خاصة بعد ما شهدته جامعة الأزهر من أحداث عنف وتظاهرات اشترك فيها الطلاب السلفيون إلى جوار الإخوان الذين أرادوا الانقضاض على الجامعة وهدمها.
علاقة الطيب بجماعة الإخوان المسلمين لا تقل حدة عن علاقته بالسلفيين بل تزيد، فمنذ كان الشيخ رئيسا لجامعة الأزهر كان الطلاب الإخوان الذين أطلقوا على أنفسهم جيل النصر المنشود يتعمدون الإساءة للدكتور الطيب، وكانوا ينظمون التظاهرات بأوامر من قادتهم وقتئذ ومنهم القيادى الإخوانى محمد البلتاجى، حيث كان يتظاهر الطلاب تحت مكتب الطيب بالجامعة رافضين لما كانوا يسمونه بالتضييق عليهم، ومنذ قيام ثورة 52 يناير حاولت الجماعة السيطرة على المشيخة وإزاحة الطيب من على الكرسى فقاموا بتنظيم التظاهرات ضده لخلافهم الفكرى والعقائدى مع الشيخ، وفى لحظة من تلك اللحظات، كاد الطيب أن يتقدم باستقالته نظرا للهجوم عليه الذى بلغ حد التطاول من قبل البعض، وهو ما لم يتحمله الإمام فى البداية، لكنه سرعان ما أدرك أن استقالته ستؤدى إلى سيطرة الإخوان على الأزهر فتراجع عن فكرة الاستقالة وفضل المواجهة للحفاظ على المؤسسة من الاختطاف.
حاول الإخوان التقليل من شيخ الأزهر خاصة فى حادثة جامعة القاهرة أثناء الخطاب الأول للرئيس المعزول محمد مرسى عقب توليه الرئاسة، حيث لم يخصص مقعد فى الصف الأمامى لشيخ الأزهر وخصص له مقعد فى الصفوف الخلفية كما لم يسمح له بدخول قاعة كبار الزوار، مما جعل الطيب يغضب وهم بتوجيه حديث حاد لقيادات الإخوان حينها قائلا لهم: هتبدأو من أولها!، وانصرف ولم يحضر الخطاب.
مواقف عديدة عبرت عن عداء جماعة الإخوان للشيخ ومحاولتهم تقييد دور الأزهر والعبث بمادته بالدستور، كما أنهم حاولوا تعيين رئيس للجامعة، وهو ما رفضه الشيخ حينها كما رفض تعيين نواب للجامعة.
شيخ الأزهر دائما ما يعترف أن الإخوان موجودون بالأزهر، وذلك بحكم أن الأزهر يقبل الجميع «ولكن على من يدرس أو ينتسب إليه أن يلتزم بمنهجه».
محاولات الإخوان «تطفيش» الطيب استمرت، وكان من ضمنها افتعال أزمة تسمم طلبة المدينة الجامعية برغم أنه لم تثبت حالة واحدة، حينها حدثت ضجة كبيرة، وقام طلاب «المحظورة» بتنظيم التظاهرات واقتحام المشيخة ومحاولة الوصول إلى مكتب شيخ الأزهر لولا أن رجال الحرس الخاص استطاعوا أن يخرجوه قبل وصول طلبة الإخوان إليه. وظل الصراع بين شيخ الأزهر والإخوان قائما، فقد جرى العرف أن يرشح شيخ الأزهر وزير الأوقاف بالتنسيق مع رئيس الوزراء فى أى حكومة جديدة، وبالفعل فى حكومة هشام قنديل بعث شيخ الأزهر ترشيحه لاسم الدكتور أسامة العبد وزيرا للأوقاف، ولكن الإخوان لم يوافقوا ورشحوا الدكتور طلعت عفيفى، لتخرج الأوقاف عن سيطرة شيخ الأزهر وتنفصل عن المشيخة طوال فترة حكمهم.
تقرير دولى: الإمام الأكبر أكثر الشخصيات الإسلامية تأثيرا فى العالم
المركز الإسلامى الملكى: «الطيب» حجر عثرة أمام جماعة الإخوان لدفاعه عن وسطية الإسلام.. وبذل جهوداً فى مواجهة تنظيم داعش الإرهابى
احتل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيِّب، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، المرتبة الأولى من حيث الشَّخصيات الإسلامية الأكثر تأثيرًا فى العالم، وذلك فى التقرير الذى يصدر سنويًّا عن المركز الإسلامى المَلكى للدراسات الاستراتيجية بالعاصمة الأردنية «عمان»، والذى جاء فى كتاب حمل عنوان «أكثر 500 شخصية مسلمة تأثيرًا فى العالم لعام 2017».
وخصَّ التقرير الـــ50 شخصية الأولى بترجمات خاصة مع صورهم، مؤكدًا أن الإمام الأكبر الذى يرأس أكبر مؤسسة إسلامية سنية فى العالم، يمتلك السلطة العلمية الأعلى لأغلبية المسلمين السنة فى العالم، ويمتد تأثيره العلمى كمفكر رائد فى الإسلام السنى عبر العالم أجمع.
وذكر التقرير أن الإمام الطيب، الذى ينتمى إلى المدرسة الفكرية السنية الوسطية، يترأس أيضًا مجلس حكماء المسلمين الذى أنشئ فى عام 2014م بهدف نشر ثقافة السلم والتعايش المشترك فى كل ربوع العالم، ونبذ العنف والإرهاب، ومواجهة ما تتعرض له تعاليم الدين الإسلامى من تشويه وتحريف عبر الاعتماد على الفهم الصحيح لها.
وأشاد التقرير بالجهود التى يبذلها فضيلة الإمام الأكبر فى مواجهة تنظيم «داعش» والقضاء على تأثيره، حيث نظم العديد من المبادرات والمؤتمرات فى هذا الصدد، كما عمل على تحسين العلاقات الخارجية للأزهر الشريف واستعادة دوره العالمى، وقَبِل دعوةً لمقابلة البابا فرانسيس فى الفاتيكان فى مايو من العام 2016 لأول مرة فى تاريخ الأزهر، فيما اعتبر أن الإمام الطيب كان بمثابة حجر العثرة أمام جماعة الإخوان المسلمين؛ لدفاعه عن وسطية الإسلام، «مشتملا على البعد الرُّوحى له المتمثل فى الصوفية» فى مواجهة جهود جماعة الإخوان لتحويل الإسلام من دينٍ وسطى إلى قوة تسعى للحكم الدينى.
وتابع التقرير أن الإمام الأكبر أكد مرارًا وتكرارًا على رسالته المتمثلة فى تعزيز الإسلام الوسطى منذ أن أصبح شيخا للأزهر، حيث أكد أهمية تعليم الطلاب تراثهم الإسلامى، معتبرا خريجى الأزهر بمثابة سفراء للإسلام فى العالم أجمع، موضحًا أنه فى الوقت الذى بدأ فيه ظهور التشدد الإسلامى فى كل مكان، كان لدى الإمام الطيب المهارات الشخصية والمؤسسية اللازمة لفرض نفسه كممثل للإسلام الوسطى ومدافعا عن الإسلام الذى مارسته الأغلبية العظمى من المسلمين فى مختلف العصور.
وذكر التقرير أن الإمام الأكبر يترأس ثانى أقدم جامعة على مستوى العالم، حيث استمر التعليم فيها منذ العام 975م، موضحا أن الأزهر يمثل مركزا للإسلام السنى فى العالم، كما أنه المؤسسة الرئيسية التى تصدر عنها الأحكام الشرعية والتعاليم الدينية والتى تقدم التعليم الإسلامى المكثف للطلاب المصريين والدوليين منذ افتتاحها من أكثر من ألف عام، حيث تملك من التاريخ ما يجعلها حصنا ومعقلا للإسلام الوسطى والتراث الإسلامى، مشيرا إلى أن خريجى الأزهر يلقون قدرا كبيرا من الاحترام كقادة دينيين داخل المجتمعات المسلمة مما يجعل شيخ الأزهر شخصية مؤثرة ذات نفوذ غير عادى عالميًّا، لافتا إلى أن من أشهر مقولات الإمام الطيب أن «الوحدة بين المسلمين والأقباط صمام أمان مصر وفى غاية الأهمية».
يذكر أن تقرير «أكثر 500 شخصية مسلمة تأثيرا فى العالم» هو نشرة سنوية، صدرت للمرة الأولى فى العام 2009 لتحديد أكثر خمسمائة شخصية مسلمة تأثيرًا فى العالم، ويصدرها المركز الإسلامى الملكى للدراسات الاستراتيجية التابع لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامى، وهى مؤسسة إسلامية دولية مستقلة مقرها العاصمة الأردنية عمان.
هل يهرب الطيب من الأزمات فى «ساحة الدراويش»؟
عائلة الطيب تقود طريقة «الخلوتية» الصوفية.. ومحمود ابن شيخ الأزهر يقوم على خدمة رواد الساحة
يحرص على زيارة أسرته فى القرنة كل أسبوعين.. ويرتدى «الجلباب» الصعيدى.. ويحضر بعض جلسات الصلح العرفية
لم ينجح صخب القاهرة ولا أنوار باريس، فى إغراء الشيخ الطيب وسحبه إليهما، أو زحزحته عن صعيديته تلك التى عاش مرتبطًا بها كجذر ثابت فى الأرض، لا تهزه مناصب ولا تقلعه رياح، وظل محتفظا حتى بلهجته دون أن تتسلل مفردات المدينتين الساحرتين إليها، فالطفل أحمد الطيب الأقصرى هو نفسه الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الذى يحرص على الذهاب إلى قريته كل ثلاثة أسابيع مرة يجلس فى ساحته بين محبيه ومريديه كعادة المتصوفة وشيوخ الطرق، محافظًا على إرث عائلته الصوفية التى يعود نسبها للإمام الحسن بن على بن أبى طالب وتنتهى بالرسول عليه الصلاة والسلام.
للإمام مشيخته ومنبره، وللمتصوف داخله خلوته، حيث ينتمى الإمام الأكبر لطريقة صوفية تعرف باسم بالطريقة الخلوتية، التى مازال أخوه الأكبر الشيخ محمد الطيب يقوم على أمرها باعتبارها إرثا مستقرًا للعائلة لا يمكن التفريط فيه.
يحرص على زيارة أسرته فى القرنة كل أسبوعين.. ويحضر بعض جلسات الصلح العرفية
فى ساحة الإمام الطيب بالأقصر تعقد المجالس العرفية للصلح بين المتنازعين الذين يلجأون لساحة آل الطيب لحل مشكلاتهم، يحضر شيخ الأزهر فى إجازته بعض جلسات الصلح خاصة المشكلات الكبيرة التى قد يتأجل النظر فيها حتى يعود الإمام من القاهرة ليشارك ويحكم ويفصل بها.
لم تشغله مناصبه ومشاغله عن قريته، فمنذ كان رئيسا لجامعة الأزهر مرورا بتعيينه مفتيا للجمهورية وحتى توليه مشيخة الأزهر ظل حريصا على زيارة قريته كل ثلاثة أسابيع، ثم قلص المدة إلى أسبوعين ليصل رحمه ويرى أبناءه وزوجته وإخوته الذين يسكنون الأقصر حتى اليوم.
فى ساحته، يخلع الشيخ عنه عمامته كما يخلع همومه، يرتدى جلبابه الصعيدى ويربط العمامة الأقصرية البيضاء ويجلس بالساحة كشيخ بلد قبل أن يكون شيخ جامعها الأهم.
ساحة الطيب فى البر الغربى، تفصلها أمتار قليلة عن معبد حتشبسوت الأثرى، تستقبل الضيوف وتقدم لهم الطعام، كما أنها مجهزة بأماكن للمبيت لينزل فيها الغرباء ممن لا يستطيعون تحمل مشاق السفر والعودة، ليقوم الشيخ محمد الطيب الأخ الأكبر للإمام بخدمتهم بمنتهى التواضع.
إلى جانب الشيخ محمد الطيب، فإن المهندس محمود، نجل الإمام الأكبر، يخدم زوار الساحة أيضًا، وكذلك إسلام ابن عمه، باعتبارها ساحة العائلة كلها، وفى الساحة تقام حلقات الذكر وقراءة الأوراد الخاصة بالطريقة الخلوتية التى يترأسها الشيخ محمد الطيب، وهى طريقة صوفية سنية.
وفى الساحة أيضا مسجد مكيف الهواء، ودار لتحفيظ القرآن الكريم، ومشغل للفتيات، وجمعية لكفالة الأيتام وأخرى خيرية لتقديم المساعدات، ومركز معلومات، ومستوصف طبى مجانى، وقاعة كبار زوار مكيفة الهواء، وثلاثة استراحات مكيفة للأجانب الدارسين للشؤون الإسلامية.
"الطيب" ..تعرض لأبشع حرب خلال فترة حكم الإخوان وساند 30 يونيو
لم يتوقف الهجوم على شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب منذ ثورة يناير وحتى الآن، هجوم يشنه الأضداد والمختلفون فى الفكر، فأصحاب كل تيار يرغبون أن يتخذ الشيخ مواقف تتناسب مع فكرهم وأهدافهم، بينما لا ينجرف الشيخ إلى هذا التيار أو ذاك، يقابل الهجوم بهدوء ولا يتحدث كثيرا أو ينجرف إلى مهاترات وعداوات.
الطيب أول من وصف من ماتوا فى التحرير بالشهداء فى بيانات رسمية صادرة ومنشورة قبل تنحى مبارك
يعرف قيمة منصبه وحساسيته، وصعوبة المرحلة التى تولى فيها هذا المنصب والتى ضمت تغيرات سياسية لم تشهدها مصر منذ سنوات طويلة، تغيرات سياسية وفكرية واجتماعية لبلد شهد ثورتين خلال أقل من عامين «25 يناير و30 يونيو» بعد ركود دام أكثر من 30 عاما.
خاض الطيب حربا خلال فترة تولى الإخوان بسبب محاولتهم اختطاف مصر بكل مؤسساتها وعدائهم الشخصى له منذ كان رئيسا لجامعة الأزهر، حيث شهدت فترة رئاسته لجامعة الأزهر تحريضا لطلاب الجماعة داخل الجامعة، حتى إنهم أقاموا عرضا عسكريا داخل الجامعة، واستمر عداء الجماعة للشيخ بعد توليه منصب شيخ الأزهر حيث كانت الجماعة تدفع شبابها كثيرا للتظاهر ضده وهو ما وصل إلى حد محاولة اقتحام المشيخة ومكتب الشيخ، ولكنه أبدا لم ينجرف إلى هذه المهاترات.
شهد الطيب هجوما منذ توليه المنصب الذى لم يسع إليه، وشهدت بشكل شخصى كيف تلقى الشيخ نبأ توليه المنصب وكأنه استقبل حملا ثقيلا يعرف تبعاته ومسؤولياته.
لا يخاف الطيب سوى الله ولا يخشى أو يهتز إلا لإراقة الدماء، ومن هذا الخوف يمكن تفسير معظم مواقفه التى تتلامس فيها حرمة الدماء مع الأطماع السياسية، فكان موقفه من ثورة يناير، حذرا مشددًا على الحقوق المشروعة للشعب فى العدل والحرية والعيش الكريم، وفى الوقت نفسه قلقًا ورافضًا لأى عمل يؤدى إلى إراقة الدماء وإشاعة الفوضى، ودعا ثوار يناير بعد استجابة مبارك لبعض المطالب لترك الميادين خوفًا من الفتنة ومن إراقة الدماء، خاصة أن مؤيدى مبارك كانوا يتظاهرون فى ميدان مصطفى محمود، فخشى الشيخ أن تحدث فتنة يقتل فيها المصرى أخاه المصرى.
وكان الطيب أول من وصف من ماتوا فى التحرير بالشهداء فى بيانات رسمية صادرة ومنشورة قبل تنحى مبارك، ودعا شباب الثورة للحوار فى رحاب الأزهر، عكس ما ادعاه الإخوان الذين أرادوا تشويه صورته.
تعرض الطيب لأبشع حرب خلال فترة حكم الإخوان الذين حاولوا إزاحته بكل الطرق، فكان الشيخ فطنا وحافظ على مؤسسة الأزهر من الاختطاف رغم زهده فى المنصب، وحقن الكثير من الدماء خلال فترة حكم الإخوان الذين أرادوا إشاعة الانقسام المذهبى والسياسى فى مصر، وكان يصر على فتاواه بحرمة الدماء وشرعية المعارضة، وتوجها بموقفه من ثورة 30 يونيو ومشاركته فى بيان 3 يوليو بعدما أيقن الجميع ضرورة نهاية حكم مرسى حقنا للدماء وحفاظا على وحدة مصر.
ومن منطلق الحرص على حقن الدماء تنطلق معظم فتاوى الإمام الأكبر الصوفى الأشعرى وبياناته، ومنها ما انتقده حتى من يدعون التحرر ويلبسون عباءة المثقفين، وليس الإخوان فحسب، حيث رفض الطيب ومؤسسة الأزهر إصدار فتوى بتكفير داعش، حتى لا يفتح بهذه الفتوى باب التكفير على مصراعيه ومعه فتاوى إهدار الدماء التى تطلقها الجماعات الإرهابية.
وما لبث أن تجدد الهجوم على الشيخ ممن أرادوا أن يطلق الأزهر فتوى لعدم الاعتداد بالطلاق الشفوى، وكأنهم يريدون أن يصدر الأزهر وشيخه الفتاوى طبقا لرغباتهم، وتجددت المطالبات بعزله أو تحديد مدته.
كل هذا والشيخ ثابت على مواقفه، عف اللسان، لا ينجرف للمهاترات والعداوات، متمحملا مسؤوليات منصبه، رغم زهده فى المناصب وكل متع الدنيا، فلا يعرف الكثيرون أن هذا الشيخ الزاهد تنازل عن كل المخصصات المالية والمكافآت وحتى الجوائز المادية منذ اليوم الأول له فى المشيخة، حتى إنه تنازل لفترة طويلة عن راتبه.. فتحية للشيخ الزاهد عف اللسان القابض على الجمر الحريص على حرمة الدماء.
الإمام والغرب.. سافر إلى فرنسا للدراسة بـ«السوربون» واضطر للعودة بعد مرضه فى باريس.. وأخذ من علوم الغرب دون أن يعتبرها سبباً للكفر
كانت الأبيات السابقة التى نظمها على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، دستورًا فى حياة الإمام أحمد الطيب، ذلك الرجل الذى عرف بأنه عالم حقيقى، يصول ويجول فى الفلسفة والتصوف والدين والعقيدة، ويكتب المؤلفات، فلم تقتل المناصب شغفه بالعلم ولم تمنعه من استكمال رحلته التى بدأها قبل 50 عاما، تفرغ خلالها لدراسة العقيدة والفلسفة، وعمل خلالها معيدا، ومدرسا مساعدا، ومدرسا، وأستاذا مساعدا، حتى صار أستاذا للعقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، وذلك بعد أن سافر إلى فرنسا ليدرس بجامعة السوربون، التى جمع منها المادة العلمية لرسالة الدكتوراه، وأجاد اللغتين الفرنسية والإنجليزية إجادة تامة، وقام بترجمة عدد من المراجع الفرنسية إلى اللغة العربية، لكنه فى النهاية حصل على الدكتوراه من جامعة الأزهر، بعد أن مرض فى باريس واضطر إلى العودة.
اختيارات الطيب البحثية إن دلت على شىء فإنها تدل على عمقه وعناده، إذ إنه على العكس من الكثير من الباحثين لا يؤمن بالاستسهال الذى يجعله يحصد الدرجات العلمية بسهولة ويسر دون أن يقدم إضافة حقيقية للمكتبة الإسلامية، لكنه عاد بعد أن قرر أن يكون موضوع رسالة الدكتوراه عن شخصية يهودية أسلمت فى القرن الرابع الهجرى، تسمى «أبو البركات البغدادى»، وقد وصفه الطيب بأنه كان رجلا فذا، وصاحب عبقرية نادرة، لافتا إلى أن «البغدادى» وعلى الرغم من كل تلك السمات، لا يوجد عنه مؤلف واحد باللغة العربية، فى حين أن هناك مؤلفات ضخمة صدرت عنه بتسع لغات، منها الإنجليزية والفرنسية، مما سيضيف للمكتبة العربية مرجعا جديدا.
اختياره لشخصية «أبو بركات البغدادى» لتصبح موضوع رسالته لنيل درجة الدكتوراه كان دليلا على جديته، أما تحديه وعناده فكان فى بحثه فى سيرة الرجل، مدفوعا بما اكتشفه آنذاك حين تبين له أن الكتابات اليهودية عن الرجل زعمت أن عبقريته نتجت عن الاضطهاد الذى لاقاه فى المجتمع الإسلامى، حتى اضطر إلى دخول الدين راغمًا، الأمر الذى فنده الطيب وكذبه، مؤكدًا أن البغدادى وصل إلى أن أصبح طبيبا لزوجة الخليفة، ولا يمكن أن يكون مضطهدا، الأمر الذى يفسر علاقة الطيب الخاصة بالغرب، فهو إذن ينسب تفوقه وانفتاحه إلى الفترة التى قضاها فى فرنسا، ولكنه على عكس الكثير ممن سبقوه من المشايخ لم يقع فى فخ الانبهار الذى وقع فيه الإمام محمد عبده على سبيل المثال حين قال «رأيت إسلاما بلا مسلمين ومسلمين بلا إسلام».
حرص الطيب على الإمساك بالعصا من المنتصف فهو إذ ينهل من علوم الغرب ومنافعه، لا ينقلب عليه ويعتبره سببا للكفر وانتشار الإلحاد، كما يرى الكثير من المنغلقين فكريا، وكذلك لا يفتح فمه انبهارا بكل ما تقدمه الحضارة الغربية من تقدم.
اختيارات الطيب البحثية، تكشف أيضا عن علاقته الطويلة بالفلسفة وعشقه للتصوف، فمن لحظة اختياره لشخصية «البغدادى» موضوعًا لرسالة الدكتوراه استكمل الطيب مسيرته البحثية، وكتب عن مباحث الوجود والماهية، ومفهوم الحركة بين الفلسفة الإسلامية والماركسية، وكذلك أصدر كتابا بعنوان «مدخل لدراسة المنطق القديم»، وآخر بعنوان «مباحث العلة والمعلول من كتاب المواقف»، ليصبح عدد مؤلفاته سبعة مؤلفات قدمها للمكتبة العربية، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث المنشورة فى المجلات العلمية، ومنها: أسس علم الجدل عند الأشعرى «بحث منشور فى حولية كلية أصول الدين «التراث والتجديد - مناقشات وردود» بحث منشور فى حولية كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية»، وأصول نظرية العلم عند الأشعرى، مفهوم الحركة بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الماركسية.
الطيب.. من «حصيرة الكتاب» إلى كرسى «المشيخة الأزهرية»
ولد فى القرنة بالأقصر.. وأبوه كان عالماً أزهرياً وساحته مقصدا لحل نزاعات الأهالى.. حفظ القرآن كاملا فى العاشرة من عمره.. وحصل على «ملحق» فى «النحو» بالصف الأول من دراسته بالأزهر.. وحلم بأن يكون طيارا ..
ليس يسيرا على أى صحفى أو باحث، أن يكتب عن الشيخ «أحمد الطيب»، أن يبحر فى تلك الحياة الواسعة التى عاشها الإمام الأكبر منذ ولادته فى مدينة الأقصر وحتى اعتلائه منبر الجامع الأزهر، مرورًا بدراسته فى فرنسا، واعتزازه بصوفيته، وتلك المعارك التى خاضها لأجل الإسلام متمسكًا بوعيه الخاص ورؤيته المتطورة، وهى النظرة التى فرضت على الشيخ عداوات وجلبت له خصومًا لم يعرهم أى اهتمام.
فى هذا الملف حاولنا أن ندخل الشيخ جهاز الأشعة التشخيصية، نقرأ صمته قبل كلامه، نروى سيرته «المتاح منها الخاص والعام» التى لا يحب أن تُحكى كصعيدى يفرض ستارًا على خصوصيته، ومسيرته تلك التى عشناها معه نتلقى منه علوم الدين، نستمع له كتلاميذ وليس رعية فنمنح أنفسنا فرصة الاختلاف معه مرة، كما التصفيق له مرات.
عبر السطور التالية نمضى مع الشيخ خطوة خطوة، نقلب فى ذكريات طفولته، وننطلق منها لباريس حيث عاش وتعلم، نهبط فى حضرته بالأقصر تلك التى صنعت شخصيته فلم يبرحها وهو إمام للجامع الأزهر كما عاش فيها صبيًا، نستمع إلى لهاثه من أثر ما خاضه من معارك مع الإخوان والسلفيين، على حد سواء، ومع داعش التى ناقضت رؤيته الوسطية وألصقت بالدين ما لا يرضى الطيب ولا يحبه الإسلام، نحاول أن نتلمس السمع لهمس الشيخ كما صراخه، ونرصد بالقلم ما قاله وما لم يقل لعلنا نصل إلى ما يدور تحت عمامة الرجل الصوفى الكبير، الشيخ والإمام الأكبر، ورأس المؤسسة السنية الكبرى «الأزهر» وحامل مفاتيح الإسلام الوسطى المستنير فى زمن السيف والفتنة والدم.
«الأقصر».. من بلد السواح إلى موطن الإمام الأكبر
لم تكن مدينة الأقصر الملهمة والساحرة، تعرف أن أوصافًا جديدة سوف تضاف لاسمها كمدينة سياحية تحتفظ لنفسها بثلث آثار العالم، إلا حين أطلقت إحدى نسائها فى صباح السادس من يناير من العام 1946 صرخة الولادة، لتنجب الطفل «أحمد» الذى يصير فيما بعد إماما للجامع الأزهر، وتتحول معه الأقصر من «بلد السواح»، إلى بلد الإمام بحلول عام 2002 حين وقع الرئيس مبارك أوراق اعتماد الطيب شيخًا للجامع الأزهر.
الطفل «أحمد» ولد لعائلة عريقة بقرية «القرنة» ذات الشهرة العالمية، وهى القرية الصغيرة التى اشتهرت كبيئة حاضنة للفن الفرعونى، ويتسم أهلها بالتدين وهو ما لاحظه المهندس العالمى حسن فتحى حين نقل أهالى القرية إلى «القرنة الجديدة» فبنى لهم مسجدًا حمل أجمل النقوش المعمارية.
فى تلك البيئة ولد الطيب لأب من أهل الدين فقد كان عالما من علماء الأزهر الشريف، حرص على أن يحفظ ابنه القرآن فى كتاب القرية، فأتم الصبى حفظه وتلاوته فى عمر عشر سنوات وتحديدًا عشر سنوات وستة أشهر، وهو ما نبه والده لتعلق قلب الصبى بكتاب الله، فما كان منه إلا أن حفظه القرآن بالمتون العلمية على الطريقة الأزهرية الصحيحة.
من أسرار طفولته: حلمت بالطيران فسجننى والدى
«نشأت كأى طفل فى صعيد مصر على ضفة النيل، فى القرنة التى تبعد خمسة كيلو مترات عن الأقصر، حيث البيوت والنجوع فى أحضان الجبل» بتلك الكلمات يصف الطيب قريته التى ظل متعلقًا بها حتى ارتدى عمامة شيخ الأزهر، مشيرا إلى أنه تربى فى أسرة لديها تقاليدها الخاصة الصارمة، تلك التقاليد التى تزيد عن تقاليد الصعيد الحاكمة بقليل، فرب الأسرة من علماء الأزهر الشريف المتصوفين، بل إن نسلهم يمتد للحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، ليصبح التصوف جذرا ممتدا فى العائلة يرثه الطيب عن أبيه ويورثه لأبنائه من بعده، فالأسرة التى أنجبت الشيخ ليست صعيدية فحسب بل صعيدية ومتدينة فى آن واحد، الأمر الذى يعنى أن محاولة الخروج عن مسار تلك الأسرة يعنى صداما لا حد له.
يواصل الشيخ رواية مسيرته عن عائلته المتحكمة والحاكمة: «أنتمى للجيل الخامس بالعائلة من الدارسين بالأزهر، حياتى كلها من النوع الذى رسم لى، وعلىّ أن سير فيه لا اختيار لى ولا حرية فى أن أغير أو أبدل»، مشيرا إلى أن والده كان كبيرًا فى قومه يحل مشاكلهم، ويحكم بينهم بالشكل الذى يجعل مخالفة أوامره ضربًا من الخيال.
ولأن الأب صوفى النزعة، يؤمن بالأحلام وما الورائيات، فكان على الطيب ألا يرتدى الطربوش وألا يذهب إلى المدرسة فى العام الذى قررت له عائلته له ذلك، فالأب يرى فى منامه ما يصفه الطيب «بالرؤية المزعجة» ليعود إلى الكُتاب الذى ظل فيه حتى العاشرة من عمره.
«وظللت فى الكتاب أحفظ القرآن إلى سن العاشرة وكنا نجلس على التراب وكانت تعرق أرجلنا ويختلط التراب بالعرق وكنا نمنع من الإفطار قبل الذهاب للكتاب» يؤكد الشيخ وهو يسرد سيرته، مضيفا: «كنت أذهب إلى الكتاب دون إفطار حيث كان أهلى يؤمنون أن الطعام يمنعنا من حفظ القرآن، أو يعوق ذلك».
«كان سيدنا ويقصد معلم الكتاب، يجلس على الحصير وكان الحصير بالنسبة لنا منصة تربينا على قداسة كتاب الله، وكنا نظل فى الكتاب من الصبح إلى العصر يوميا طوال السنة وننام بعد العشاء مباشرة»، يؤكد شيخ الأزهر، الذى تربى فى كتاتيب الصعيد التى سبقه إليها طه حسين وانطلق منها إلى جامعة السوربون بفرنسا تماما، كما سيحدث للطيب بعد سنوات من حفظه للقرآن وتعلقه بشيخ الكتاب، وكأن الكتاتيب قد عقدت اتفاقية تبادل مع الجامعة الفرنسية الكبيرة.
«كانت حريتنا مصادرة» يقول شيخ الأزهر الذى لم يستطع أن يخفى أن تلك الحرية المفقودة جعلته يحلم بالطيران، كان يتمنى أن يصير طيارًا بعدما اعتادت عيناه على رؤية الطائرات تمر بالأقصر تنقل السياح والبعثات الأثرية، ولكن والده منعه من ذلك ونقله من السماء طائرًا إلى سماء الجامع الأزهر شيخا، ليؤخذ بيديه ملايين الطلاب إلى سماء القرآن وعلومه، سماء أبقى وأحسن سبيلا.
«كان شيخ الكتاب يركب ركابه ويفوت على بيوت القرية ليعلن من أتم حفظ القرآن فيحصل على العطايا فكنت من بينهم» يقول الطيب، الذى دخل إلى الأزهر الشريف عام 1956، قبل أن تعرف بلدته الكهرباء وقبل أن يكسو الأسفلت شوارعها.
«كنت وما زلت أقبل يد أخى الأكبر وكانت عادة تقبيل يد أمى رحمها الله كل صباح كأنها صلاة» يشير الطيب، ويؤكد: لم نكن ممن يداعبون آباءهم.
يكشف الشيخ سرًا من أسرار طفولته جعله يتحول من كراهية النحو إلى التفوق فيه يقول: «حصلت على ملحق فى النحو وآخر فى الرياضيات حين كنت فى الصف الأول الابتدائى بالأزهر» وهو الأمر الذى أوقظ روح التحدى فى داخله حتى صار يحصل على الدرجات النهائية فى النحو إلى أن تخرج.
من حلم بالطيران، عاش سجينًا لرغبات والده، هذا هو حال الصبى أحمد الطيب الذى أراد الالتحاق بالقسم العلمى حين كان فى المرحلة الثانوية إلا أن والده أرغمه على التحويل إلى القسم الأدبى، فتغير حلمه، وقرر أن يصير أديبًا ليحلق فى عالم اللغة والكلمات ويطير فيهما بدلًا من الطيران فى الجو «كنت أريد أن ألتحق بكلية الإدارة والمعاملات فرفض والدى، فاقترحت كلية اللغة العربية لتعلقى بالأدب، فما كان منه إلا أن هددنى بعدم الإنفاق علىّ أن لم التحق بكلية أصول الدين، حيث الفلسفة والحديث الشريف، فرضخت لرغبته حتى تخرجت فيها بتفوق عام 1969» يقول الشيخ.