ثلاث سنوات قضاها رجب طيب أردوغان رئيسا لتركيا، تمتع خلالها بصلاحيات تنفيذية واسعة، قياسا على نظام برلمانى يشكل المجلس النيابى المنتخب مركز السلطة فيه، ويترجمها عمليا بانبثاق السلطة التنفيذية من داخل تركيبته السياسية ووفق موازين القوى فيه، ورغم نجاح حزب أردوغان "العدالة والتنمية" فى تحقيق أغلبية برلمانية كافية لتشكيل الحكومة، بمعاونة بعض الأحزاب الصغيرة التى ارتضت بشروط الحزب الإسلامى للتحالف، لم يقنع السياسى الذى قضى 11 سنة رئيسا للوزراء ورجلا أول على المستويين السياسى والتنفيذي، بما يوفره له الدستور من صلاحيات داخلية وخارجية، أبرزها حقه فى تعيين عدد كبير من كبار القضاة بالمحاكم المختلفة، ويصل الأمر إلى تعيين 14 قاضيا من أصل 17 بالمحكمة الدستورية، فقرر إعادة بناء الدولة وفق صيغة رئاسية، لتصبح له سلطات شبه مطلقة فى الشؤون السياسية والتنفيذية، وكلمة عليا وقاطعة فى الشأن القضائى وفى تعيين القضاة وعزلهم.
الصيغة التى ذهب إليها أردوغان فى إطار فرض سيطرته على تركيا، تحمل شبهات كثيرة سجلتها أحزاب المعارضة الكبرى فى تركيا، بينما رد أنصار العدالة والتنمية متعللين بأن الهيكل التنفيذى الجديد الذى تقره التعديلات الدستورية الأخيرة، التى مررها أردوغان فى استفتاء عام، شهدته البلاد 16 أبريل الجارى، اختارت بناء الدولة وفق منطق رئاسى لا برلمانى، وهذه طبيعة النظام الرئاسى وما يوفره من صلاحيات للمنصب الأول فى البلاد، وهو ما اشتبك معه المعارضون كاشفين فوارق عديدة بين الصيغة الأردوغانية والأنظمة الرئيسية الكبرى عالميا، وتحديدا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التى ضرب مؤيدو التعديلات الدستورية النموذج بها، ولكن ظلت نقطة الصلاحيات الجديدة فيما يخص تعيين القضاة وعزلهم محل جدل أكبر، فالصيغة البرلمانية السابقة منحت الرئيس سلطات كبيرة فى الاختيار والعزل، والصيغة الجديدة تغولت فى الأمر واستحوزت بشكل يقترب من الهيمنة على مقاليد الأمور فى سلك القضاء، ورغم هذا كانت هذه النقطة الأقل انتقادا من المعارضين، ربما لأنها النقطة الأكثر شبها بفرنسا وأمريكا وغيرهما من الأنظمة الرئاسية، وحتى غير الرئاسية.
من فرنسا وأمريكا إلى تركيا "قبل وبعد"
الآن يستطيع أردوغان، فى ظل نظام رئاسى جرى تمريره فى استفتاء - ما زال مشكوكا فى نتائجه - تعيين مئات القضاة، وعزلهم، وفرض ترتيبات وأمور تنفيذية عديدة تخص المحاكم والهيئات القضائية المختلفة، ومن قبل كان يحتفظ بقدر كبير من هذه الصلاحيات فى ظل نظام برلماني، يُفترض أن تكون هذه الأمور من سلطات البرلمان، وبين الحالتين التركيتين، قبل تعديلات الدستور وبعدها، ربما لم تتغير الصورة كثيرا فيما يخص علاقة مؤسسة الرئاسة بقطاع القضاء، باستثناء زيادة أعداد القضاة الذين يعينهم الرئيس وإطلاق حقه فى عزلهم، ولكن النظامين اللذين تشبه بهما داعمو الرئيس التركي، يختلف فيهما الأمر بقدر ما.
فى فرنسا تتوزع سلطة إدارة التعيين والخروج من السلك القضائى بين الرئيس والجمعية الوطنية "البرلمان" ووزارة العدل، يبدأ الالتحاق وفق ضوابط ورقابة وقرارات وزارة العدل، وينفذ بقرار من الرئيس، بينما يستكمل القاضى رحلته المهنية وخطواته الصاعدة على سلم الترقى بقرارات حكومية ورئاسية، ويُعين رؤساء بعض الهيئات القضائية بقرارات رئاسية وترشيحات من الجمعية الوطنية، وللأطراف الثلاثة سلطات تنفيذية ورقابية فيما يخص هيكل القطاع القضائى فى المستويات الوظيفية والمالية والإدارية والجوانب التنظيمية والرقابية.
فى الولايات المتحدة الأمريكية يحتفظ الرئيس بمفرده بصلاحية تعيين قضاة المحكمة العليا الثمانية، ورئيسها، وهى المحكمة الأهم والأوسع سلطة وأكثر مركزية فى النظام القضائى الأمريكي، وتتمتع بنفوذ ضخم وصلاحيات واسعة فيما يخص الفصل فى النزاعات القانونية الفيدرالية والخلافات ذات الطابع الدستورى والأمور المتصلة بالشؤون العليا للولايات وقرارات البيت الأبيض وقرارات الكونجرس وبرلمانات الولايات، وغيرها من الأمور التى تكفى لوضعها فى منزلة هيمنة وسيادة داخل المنظومة القانونية والقضائية الأمريكية، بينما على صعيد المحاكم وهيئات القضاء الأخرى، فيتوزع الأمر بين الرئيس والكونجرس، وبين حكام الولايات وبرلماناتها، وتعتمد بعض الولايات آلية الانتخاب المباشر للقضاة من المواطنين، عبر اقتراع عام مؤقت بفترة ولاية، ما يعنى احتمالية العزل فى موعد محدد سلفا عبر صندوق وبطاقة تصويت.
ثنائية "البرلمان والرئيس" تقود قضاء العالم
فى بريطانيا يصدر قرار تعيين القضاة بمرسوم ملكى، بعد اختيارهم من جانب رئيس مجلس اللوردات، الغرفة الثانية بالبرلمان، وبموجب الدستور العرفى غير المكتوب والمنظومة القضائية السارية ومدوناتها، يشغل رئيس مجلس اللوردات منصب الرئيس الأعلى للقضاء فى البلاد، بموقعه وصفته، أما رئيس محكمة الاستئناف ومستشارو المحكمة واللوردات المعاونون ورئيس دائرة مجلس الملكة الخاص، فيصدر بتعيينهم قرار مباشر من رئيس الوزراء، والمفارقة أن بريطانيا لا تمتلك دستورا مكتوبا، ورغم هذا تملك قضاء مستقلا ولا تشهد تغولا على صلاحيات البرلمان من القصر أو القضاء، والعكس، وفى كندا، الخاضعة للتاج البريطاني، لا يستطيع القاضى المرشح لعضوية المحاكم العليا النفاذ لموقعه قبل الخضوع لاختبار عام من خلال لجنة برلمانية، إذ يعقد الاختبار فى إطار رسمى معلن، وتذاع وقائعه علانية، وعلى ضوئه تصدر اللجنة قرارها بشأن القاضى المذكور، وهو قرار غير ملزم لرئيس الوزراء (أعلى سلطة تنفيذية مباشرة)، ووفق هذه الآليات فإن اختيار قضاة كندا وتعيينهم مسؤولية مشتركة ومقتسمة بين البرلمان والسلطة التنفيذية، فى ظل ولاية وتوجيه مجتمعيين تفرضهما حالة العلنية، وعلى ضوء اختبار فرز وتقييم محكم وذى أسس واضحة.
فى سويسرا لا توجد قاعدة واحدة تحكم إدارة المنظومة القضائية، فالبلد الأوروبى ذو الهيكل الفيدرالى غير المركزي، يحفظ لكل مقاطعة حقها فى تنظيم الأمور الداخلية لقطاعها القضائي، وآليات اختيار قضاتها وتعيينهم، فيختار برلمان العاصمة "جنيف" القضاة من خلال عملية اقتراع وفرز، لولاية مدتها 6 سنوات، قابلة للتمديد مرات أخرى، ولكن قضاة المحكمة الفيدرالية العليا، أعلى الهيئات القضائية فى البلاد وأوسعها سلطة، فيُنتخبون من جانب البرلمان الفيدرالى بمدينة "برن"، بينما على صعيد ألمانيا، إحدى أهم الديمقراطيات الأوروبية الحديثة، المتمتعة بنظام قوى وفاعل للفصل بين السلطات، ومنظومة قضائية صلبة ومتماسكة، فإن قضاة محكمتها الدستورية (الهيئة الأوسع اختصاصا وصلاحيات، وصاحبة الحضور السيادى الملزم للهيئات القضائية والسلطات التنفيذية الإقليمية والفيدرالية)، يُنتخبون بكامل عددهم، 16 قاضيا، عبر آليتين واضحتين ودائمتين، تشمل اختيار نصف العدد من خلال البرلمان الألمانى "بوندستاج"، والنصف الثانى من خلال مجالس المقاطعات الاتحادية، لولاية قدرها 12 سنة غير قابلة للتجديد، وفى فرنسا يُعيّن مستشارو محكمة النقض والقضاة الأوائل لمحاكم الاستئناف بقرار من رئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من مجلس القضاء الأعلى، بينما يُعيّن قضاة الحكم بقرار جمهورى، بناء على ترشيح من وزير العدل.
المنظومة القضائية فى آسيا، وآليات اختيار قضاتها، لا تختلف كثيرا عن الصيغتين الأوروبية والأمريكية، سواء كان النظام رئاسيا أو برلمانيا، ففى الإمبراطورية اليابانية يُعيّن مجلس النواب قضاة التحكيم بمحاكم الدرجة الأولى ومحكمة النقض، وذلك فى ضوء قائمة أسماء مقترحة من محكمة النقض، ويُعيّن رئيس محكمة النقض نفسه باختيار وقرار مباشرين من الإمبراطور، ويستند النظام القضائى فى الصين إلى البرلمان بالدرجة الأكبر، فينتخب "المجلس الوطنى لنواب الشعب"، رئيس المحكمة الشعبية العليا، فى حين تتولى اللجنة الدائمة للمجلس تعيين نواب رئيس المحكمة وقضاتها وعزلهم، وهو الأمر نفسه فى كوريا الشمالية، وفى روسيا يختار الرئيس قضاة المحكمة العليا، وهى أعلى درجات التقاضى وآخرها، كما تراقب أعمال المحاكم الأدنى وتشرف عليها وتقدم تفسيرات للقانون، ويأتى قرار الرئيس بعد النظر فى ترشيحات المجلس الاتحادى "الغرفة الأعلى بالبرلمان".
كيف سيفعلها مجلس النواب؟
الخلاف المنطقى على تدخل أردوغان المبالغ فيه والعنيف فى الدستور وبنية الدولة التركية، لا يعنى أن الصيغة الرئاسية فى ذاتها سيئة، الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا أنظمة رئاسية، وتتمتع بصيغة ناضجة من الديمقراطية وتداول السلطة والفصل بين السلطات، ولكن هذه الصيغة نفسها لم تعصم تركيا، وكوبا وفنزويلا ومن على شاكلتهما من الدول نموذجا، من تغول السلطة التنفيذية ومؤسسة الرئاسة على السلطات الأخرى، وهنا لا نجد مفرا من الإقرار بأن صلاحية المنظومة وانضباطها لا يرتبطان بالتأسيس القانونى والصياغات التشريعية السارية وحسب، وإنما برشد السلطة وقراءتها للموقف وتعاملها مع الشركاء ضمن الهيكل البنائى للدولة، وأيضا فى الرقابة الفاعلة وفى وجود برلمان قوى وفاعل وذى سلطات واضحة وقدرات مؤثرة على إنفاذ هذه السلطات.
النقطة الأخيرة تفتح ملف الصراعات التى يواجهها مجلس النواب المصري، على أصعدة ومستويات عدة، ولكن من داخل النقطة المحددة التى تناولناها بالعرض والتحليل فى الموضوع، نكتفى بالاقتراب من الصراع الدائر بين المجلس والهيئات القضائية، على خلفية رفض الأخيرة لتشريع ما زال جاريا فى قنوات البرلمان الداخلية، (خرج مؤخرا إلى مجلس الدولة لمراجعته وفق نص الدستور)، وإذا تجاوزنا فى هذا المقام تفاصيل الصراع ومداخله ومنعطفاته، منذ تقديم مشروع قانون بتعديل المادة 44 من قانون السلطة القضائية، بشأن آلية اختيار رؤساء الهيئات القضائية وتعيينهم، منذ أواخر ديسمبر الماضى وحتى الآن، سيتبقى لنا السؤال الأهم، المتصل بحدود صلاحيات البرلمان ومداه الفاعل والمؤثر، أو بمعنى أوضح وأكثر مباشرة، هل يمكن أن يكون الاصطدام بالمؤسسة التشريعية ومحاولة إضعافها وكسر إرادتها أمرا فى صالح الدولة وسلطتيها الأخريين، التنفيذية والقضائية؟ وهل يكون المسعى القائم الآن لفرض رؤى ما على البرلمان مدخلا لكسر نقطة التوازن التى أشرنا إليها بشأن حجية القانون وصلاحيته وقوة إنفاذه، على طريقة أردوغان فى قمع البرلمان بالدستور؟ وهل تنازل البرلمان عن رؤيته جبرا، تحت ضغط القضاة، هيئات وأفرادا، يمكن أن يقيم منظومة تشريعية وقانونية صحية وناضجة؟ أم يكون مدخلا لخلخلة الموازين وصناعة نظام يبدو قويا ومتماسكا كأنظمة أمريكا وفرنسا وروسيا، ولكنه فى جوهره هش وورقى ومهتز كنظام أردوغان؟
التعديل الذى ناقشه مجلس النواب، ويمنح الرئيس صلاحية اختيار رئيس الهيئة القضائية من بين 3 أسماء ترشحها مجلس الهيئات من أقدم 7 نواب لرئيس الهيئة، بينما كانت فى السابق ترشح اسما واحدا ليصدر الرئيس قرارا بتعيينه، ربما لا تحمل فى جوهرها الحقيقى أى تغول أو وصاية من البرلمان ومؤسسة الرئاسة على السلطة القضائية، ما زال للأخيرة حق إدارة شؤونها واختيار القائمين عليها، فى بلد يقتسم النظامين الرئاسى والبرلمانى وفق صيغة متوازنة بين البرلمان والرئيس، وبموجبها، وفى ضوء الأنظمة العالمية راسخة الديمقراطية والتماسك، يحق لهما اختيار القضاة وتعيينهم، وهو ما لم يحدث ولم تقترب منه التعديلات، فعلى أى أرض يقوم الخلاف الحالي؟
الأمر الواضح عبر رحلة الشهور الأربعة الأخيرة، منذ طرح مشروع القانون، مرورا برفض الهيئات القضائية وأندية القضاة، ومناقشة مجلس النواب للمشروع وإقراره من حيث المبدأ ثم إرساله لمجلس الدولة، ورفض الأخير له مؤخرا وحديثه عن شبهة عدم الدستورية، وصولا إلى أحاديث عديدة من لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب، عن قبولهم لإعادة النظر فى المشروع والاستماع لآراء القضاة، رغم تجاهلهم السابق لمطالب إبداء الرأي، ووصول اللجنة بمستوى التناول فى إطار السعى لحل الأزمة، إلى حد قبولها بالعودة للقانون القديم لو أراد القضاة هذا، يشير فى ظاهره إلى مساحة إيجابية من التوافق، ولكنه فى جوهره يجمل مؤشرات خطيرة، لأنه يشير إلى سيادة رأى على آخر دون حوار ونقاش، وإلى اتجاه أصبح قريبا لكسر إرادة السلطة التشريعية وغل يدها عن صلاحياتها فى التشريع، والمصادرة المسبقة على المحكمة الدستورية العليا بشأن سلطتها للفصل فى كل المنازعات المتصلة بالوثيقة الوطنية الأولى، الدستور، بحجيته وإلزاميته للجميع، وهو ما قد يكون بداية لخلخلة ركائز قانونية وأسس بنائية، تخص هيكل الدولة المصرية وعلاقات سلطاتها ببعضها، ومساحة صلاحيات هذه السلطات.
السؤال الأهم والأكثر إلحاحا الآن، هل يمكن اعتبار كسر إرادة البرلمان مكسبا لأحد؟ وهل تقبل الهيئات القضائية التى تعمل فى ضوء منظومة تشريع يصيغها البرلمان ويشكل ملامحها، أن تكون أول معول ينتقص من صلاحيات المجلس ويخصم من عافيته وحريته واستقلاله فى بناء القوانين، أى أن تخصم من نفسها مباشرة، لأنها تسمح بسنة جديدة تجيز توجيه عملية التشريع والمصادرة عليها والتحكم فى ماكينة إنتاجها؟
الحقيقة أننا إزاء أزمة قائمة حتى الآن، ليس البرلمان صاحبها ولا المسؤول عنها، فحتى الآن ما زال يمارس دوره وفق حيزه الدستورى واللائحي، وبينما يتمتع المجلس بصلاحيات واسعة فى ضوء بناء دستورى نصف رئاسى/ نصف برلمانى، فإنه يتعرض لضغوط قوية رغم هذه الصلاحيات، بينما الدول الشبيهة عالميا، وغير الشبيهة من المنحازة للنظام الرئاسى أو البرلمانى البحت، يحضر فيها الرئيس والبرلمان، والمواطنون الناخبون أحيانا، كسلطة مباشرة وكاملة الصلاحية فى اختيار القضاة وتنحيتهم، فكيف يمكن انقضاء الأزمة الراهنة وتجاوزها؟ وكيف سيفعلها مجلس النواب وينتصر لسلطته وصلاحياته، أى لتجرد واستقلالية ماكينة إنتاج القوانين؟ ننتظر الأيام المقبلة لنعرف، ونتمنى ألا يأتى حل الأزمة على حساب البرلمان وكسر إرادته.