"برلمانى" تحت قبة الكونجرس

يحتاج الوقوف أمام قبة الكونجرس الأمريكى إلى ليال كاملة من القراءة والبحث عن تاريخ تلك التحفة المعمارية البديعة، خاصة إذا صادفك الحظ لترافق أول زيارة برلمانية مصرية لهذا المبنى الأهم فى العالم بعد انقطاع دام لنحو تسع سنوات، أسئلة كثيرة تجول فى خاطرك قبل أن ترى تلك القبة اللامعة رؤى العين، خاصة وأننا لم نعرف عن هذا المبنى سوى أنه بمثابة متحف فريد.

فى الثامنة صباحاً كان قد وصل الوفد البرلمانى المصرى إلى مقر الكونجرس، وانتقل حينها شغفى بجمال صور الكونجرس الأمريكى على مواقع التصفح عبر الإنترنت أو شاشات التلفزيون، إلى شغف من نوع آخر أمام تلك القبة اللامعة التى تبدو الآن أضخم مما تصورت، لكن صوت سيارة أمن تسير ببطء حول المبنى فصلتنى عن مواصلة التركيز.

 

سبقنى الوفد بخطوات كنت قد أمعنت خلالها النظر لأفراد الحرس المحيطين بالمبنى وسيارات الأمن، الذى أكد لى أحد سائقيها أن المبنى يتسع لنحو عشرة كيلومترات مربوطة بشبكة أنفاق للمشاة، ثم دخلت أحد البوابات الالكترونية للتفتيش الكامل، ودلفت فى أول طرقة صغيرة تضم مكاتب متجاورة، سألت عن ذلك المبنى فأجابنى أحد أفراد الأمن أنه ضمن سبع مبانى رئيسة للكونجرس الأمريكى.

 

وبجولة سريعة بتلك المباني، وجدت أن كل مبنى رئيسى يشمل نحو 7 أدوار، تلك المبانى تضم 535 مكتب خاص بنواب الكونجرس، 100 مكتب خاصة بأعضاء مجلس الشيوخ و 435 آخرين خاصة بأعضاء مجلس النواب، يتقدم كل مكتب علم الولايات المتحدة وعلم آخر للولاية التى يمثلها النائب، ويضم المكتب 3 غرف كبيرة على الأقل.

 

 

تلك الغرف مخصصة لهيئة مساعدى النائب بخلاف غرفة العضو نفسه، والتى تتراوح ما بين 12 إلى 34 موظف بين خبير ومستشار وسكرتير وخلافه، يختارهم النائب بمعرفته على أن تدفع الدولة رواتبهم من الضرائب، ويزيد عدد المستشارين فى حالة أن يكون النائب عضواً بمجلس الشيوخ كون اختصاصاته تتسع لتشمل الموافقة على التعيينات فى الوظائف الحكومية الرفيعة والاتفاقيات .

فى أحد تلك الغرف، وقعت فى سجلات الزائرين ، وتحديدًا فى غرفة النائب روبرت باتنجر عضو الكونجرس ورئيس فريق عمل مجلس النواب المعنى بمكافحة تمويل الإرهاب، وجدت اجتماعات صغيرة مكثفة لمجموعات مصغرة من المستشارين، أوراق يتم جمعها وأبحاث يتم إعدادها ونقاشات مستمرة، والنائب يلتقى بزواره الدائمين.

 

سألت لورى كبير مساعدى النائب بوى جومرت، عن كواليس العمل بتلك المكاتب، أكدت لى أن العاملون بمكاتب النواب فى يبدأون عملهم فى الثامنة صباحاً يوميًا ويحضر النائب فى التاسعة والنصف ويستمر العمل تحت قبة الكونجرس حتى السابعة مساءاً، وأضافت: " لكن عمل النائب نفسه بشكل عام يستمر طول اليوم، لأنه يراسلنا من منزله طوال الليل ، لمتابعة أى مستجدات".

الحياة هنا تحت قبة الكونجرس الأمريكى مختلفة تماماً، أصوات كثيرة متداخلة، خلية نحل تعمل بشكل لا ينقطع، نقاشات متعددة داخل المكاتب وفى الطرقات وحتى فى أماكن تناول الطعام، وما لفت انتباهى الارتباط الوثيق بين الكونجرس والشعب الأمريكى.

 

تلحظ طوابير من المواطنين أمام بوابات الكترونية ينتظرون التفتيش والدخول، وحينما سألت أحد الزائرين، قال لى أن لعموم الشعب الأمريكى الحق فى لقاء النواب بمكاتبهم فى أى وقت وبدون موعد مُسبق، ومن حق عموم المواطنين أيضاً أن يشاركوا فى اجتماعات اللجان ما دامت غير مغلقة أو سرية.

 

سألت أحد الدبلوماسيين المصريين المترددين بشكل دائم على الكونجرس عن كون لقاءات المواطنين بنوابهم هنا لعرض شكاوى متعلقة بخدمات الدوائر أو خلافه، فأخبرنى بأن المواطنون يجهزون أفكارًا لتطوير ولاياتهم ويطرحوها على نوابهم، حتى أننى وجدت أحد الرياضيين يُدعى "كان" بداخل مكتب نائب ولايته ديفيد تروت، وقد جهز أفكارًا عدة لتطوير رياضة الأطفال بشكل آمن.

 

التحام الكونجرس الأمريكى مع المواطنين مثير للإعجاب، فبمجرد انتقالك بين الطرقات، ستجد شباب يفترشون الأرض لينهوا ملامح بحث مهم سيقدموه لنائبهم الذى تفصله دقائق عن الوصول، سترى أطفالاً يحضرون اجتماعات اللجان لإبداء رأيهم، رحلات مدرسية وجامعية لزيارة مبانى الكونجرس بالمجان، أسر بأكملها جاءت من مختلف الولايات إلى واشنطن لتتناقش مع النواب.

 

 

 

لم تتوقف تلك الروح التى تُضاف إلى الدور التشريعى عند ذلك الحد، بل إن الأعراف البرلمانية وفقاً لما أكد لى أحد العاملين فى السفارة المصرية فى واشنطن، تُلزم النائب بالعودة إلى مكتبه فى الولاية كل عطلة رسمية، للقاء الجماهير والاستماع إلى مشكلاتهم، وأن بمكتب النائب بالولاية مجموعة أخرى من المستشارين يقوم بتعيينهم وصرف رواتبهم بمعرفته الشخصية.

السؤال هنا، هل لدى النائب إذن فرصة للفشل فى ضوء هذا الالتحام مع الجمهور؟، الإجابة وجدتها بقليل من البحث، فلك أن تعلم أن آخر انتخابات لمجلس النواب الأمريكى والتى تُجرى كل عامين، أسفرت عن دخول 40 نائبا جديدا فقط لمبنى الكونجرس من واقع 435 نائبا، وأن نواباً هنا بالكونجرس الأمريكى منذ السبعينيات، مثل الرئيس المناوب لمجلس الشيوخ أورين هاتش.

طريقة العمل داخل الكونجرس الأمريكى يستدعى التوقف أيضاً، فعلى سبيل المثال، يختار حزب الأغلبية جميع رؤساء اللجان على أن يكونوا أعضاء منه، فى مقابل أن يختار حزب الأقلية زعيماً للأقلية فى كل لجنة، ثم يختار أعضاء اللجنة ذاتهم رؤساء للجان الفرعية المنبثقة عن اللجان، فلجنة العلاقات الخارجية مثلاً بها لجان فرعية منها، شئون الشرق الأوسط، التهديدات الناشئة، وغيرها.

توقفت أمام لفظ "أقلية" وعدم استخدام لفظ المعارضة على الحزب المقابل للأغلبية كما هو الحال فى معظم البرلمانات، وهو ما أجاب عليه أحد الدبلوماسيين المصريين خلال تواجده فى الكونجرس مرافقاً للوفد: "هنا ما بيستخدموش كلمة معارضة، لأن الأغلبية والأقلية بتشتغل مع بعض فى وضع القوانين وإلا لن يمر القانون، إذن هيعارضوا إيه".

 أما عن الجلسات العامة، فتنعقد اسبوعياً بمتوسط 4 جلسات، تبثها قناة " c_span " بشكل متواصل، وجميع النواب يحضرون التصويت بالجلسة وكأنه بمثابة "فرض عين"، حتى أن السفير المصرى بأمريكا ياسر رضا، أكد لى أن نواباً يعقدون اجتماعات على الأبواب فى عجالة شديدة إذا تصادف مواعيد لقاءات ما مع التصويت على قانون ما.

 

 

تحت القبة أيضًا مكتبة كبيرة يتردد عليها النواب بشكل دائم وتضم كتباً فى جميع المجالات والأنشطة والثقافات حول العالم، بينما يلزم العرف البرلمانى الدولة بتوفير طائرة تابعة للقوات الجوية تنقل النواب المسافرين ضمن وفود رسمية إلى أى دولة أجنبية أو ولاية أخرى.