تدرج نجيب محفوظ فى العديد من الوظائف الإدارية سواء كانت فى وزارة الأوقاف أو مجلس النواب وإدارة الجامعة، وكان من حظه أن التقى عائلات قديمة فى وزارة الأوقاف تبحث عن مستحقاتها، وعرف كيف تدار الصراعات الحزبية حسبما شاهدها أمام عينه فى مجلس النواب، كثير من هؤلاء كانوا أبطالاً لروايته الأدبية.
وعن هذا التجربة يقول الدكتور "حسين حمودة" أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة: أتصور أن حرص نجيب محفوظ على أن يظل موظفًا كان مرتبطًا بكونه مهتمًا بالنظام الصارم فى حياته، لأن الوظيفة كانت تتيح له النوم فى وقت محدد والاستيقاظ فى وقت محدد والحركة اليومية أيضًا.
وتابع "رئيس تحرير دورية نجيب محفوظ" فى تصريحات لـ"برلمانى": لكن كانت للوظيفة أهمية أكبر فى حياته، لأنها أتاحت لك فرصة الاحتكاك اليومى بالناس، وقد كان هذا جزءًا من طبيعته الشخصية كما أن هذا أتاح له تجارب متعددة للكتابة.
فبحسب كتاب "نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء على أدبه وحياته" للكاتب والناقد الراحل رجاء النقاش، يقول "محفوظ": كنت أرد على مشاكل الناس التى تصل إلى وزير الأوقاف مباشرة أو عن طريق النواب، ولاحظت كم أن الحزبية والمصالح الشخصية تتدخل بشكل سافر يضر بمصالح الناس، أما فى إدارة الجامعة فقد اصطدمت بنماذج بشرية أخرى، فبطل "القاهرة الجديدة" عرفته وهو طالب وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة، ولكن "سقوطه" بدأ وهو طالب، وبطل "خان الخليلى" كان زميلاً لنا فى إدارة الجامعة اسمه أحمد عاكف، وقد جاء يشكرنى بعد قراءته للرواية على محبتى له، للدرجة التى جعلتنى أطلق اسمه على بطل الرواية.
وتابع محفوظ عن فترة وظيفته "كما اصطدمت فى الوظيفة بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسى بين الموظفين، وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشىء إلا بسبب ممارسته للشذوذ مع كبار الموظفين، وهو ما عطل ترقية محفوظ نفسه إلى الدرجة الرابعة رغم تبليغه بالأمر رسميا من قبل مديره ويقول ساخر: "وكان الشاذون جنسيًا فى نعيم حقيقى، وكانوا يجدون دائمًا من يساندهم".
ويقول الكاتب والروائى يوسف القعيد، الوظيفة أفادت نجيب فى تنظيم الوقت بشكل كبير، فكان يعمل موظفًا بالأوقاف صباحًا، ومن ثم يصبح المساء حر وقته للكتابة والإبداع.
وأضاف "القعيد" فى تصريحات لـ"برلمانى" أن محفوظ عمل فترة بمؤسسة القرض الحسن، ومن خلالها قام بكتابة روايته الأدبية بداية ونهاية، حيث صادفه أبطالها خلال عمله بالمؤسسة.
وعن تلك الفترة يقول أيضًا الدكتور حسين حمودة "عمل نجيب محفوظ فى وظائف متعددة، وكلها كانت مفيدة لتجربته الإبداعية، ومن الغريب أن وظيفة من هذه الوظائف كانت نوعًا من العقاب أو نوعا من النفي، وكان ذلك بعد عمله مديرًا لمكتب وزير الأوقاف على عبد الرازق، وعندما خرج هذا الوزير من الوزارة تم إبعاد نجيب محفوظ وتوظيفه فى مكان مغمور سمى بعد ذلك قصر ثقافة الغوري، وقد كان بهذا المكان مكتبة نهل منها نجيب محفوظ، وكان من ضمن ما وجده بهذه المكتبة ما يشبه "الكنز" نسخة بالفرنسية لرواية مارسيل بروست "البحث عن الزمن الضائع".. وقد قرأها محفوظ بالفرنسية، وبجهد كبير، وبالاستعانة بالقواميس، خلال ستة شهور.. وكثيرون لا يعرفون أنه كان يقرأ بالفرنسية.
فى عام 1959 تغيرت ملامح حياة كاتبنا الراحل، فبعد نجاح كبير فى كتابة السيناريو لعدد من أنجح الأفلام السينمائية مثل "ريا وسكينة"، الوحش وإحنا التلامذة" أثناء فترة عمله كموظف أو سكرتير لمكتب على عبد الرازق، تم ترشيحه لشغل منصب مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية وذلك بناء على ترشيح من الدكتور ثروت عكاشة آنذاك، وكان قبلها انتدب "محفوظ" مديرًا لمكتب يحيى حقى مدير مصلحة الفنون فى ذلك التوقيت.
ويقول محفوظ عن دور الرقابة "إن الرقابة كما فهمتها ليست فنية ولا تتعرض للفن أو قيمته، ووظيفتها ببساطة هى أن تحمى سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول فى مشاكل دينية قد تؤدى إلى الفتنة".
أما عن أبرز المواقف التى واجهت صاحب "نوبل" أثناء عمله بالرقابة، فكانت من بينها أنه فوجئ بمراقب الأغانى يمنع أغنية "يا مصطفى" والتى تقول كلماتها "يا مصطفى يا مصطفى/ أنا بحبك يا مصطفى/ سبع سنين فى العطارين".
ويأتى سبب الرفض كما ذكره محفوظ فى حواره مع الناقد الراحل "رجاء النقاش" أن المراقب قال أن مؤلف الأغنية يقصد مصطفى النحاس وأن "سبع سنين" الواردة فى الأغنية تشير إلى مرور سبع سنوات على الثورة، وهنا علق محفوظ موضحًا: "إلى هذا الحد من ضيق الأفق كانت العقليات التى تعمل فى جهاز الرقابة".
أما التى كانت بتدخل شخصى من "محفوظ" فاختلافه مع مدير الرقابة على الأفلام محمد على ناصف لأنه سمح بعرض فيلم سينمائى أجنبى يسيء لليابان، وكان احتاجاجه بحجة أن اليابان ساندت مصر ضد الولايات المتحدة وتعتبر دولة فى موقع الرضا والصداقة، وبالفعل تم وقف عرض الفيلم بعد احتجاج السفير اليابانى لـ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والذى أمر بوقف عرضه مباشرة.
وفى موقف آخر قام "محفوظ" بحذف بعض الأغانى للمطربة صباح من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب رأى أنها تؤديها بطريقة مثيرة.
الناقد الفنى الكبير طارق الشناوى يقول إن نجيب محفوظ كان يتعامل أثناء عمله مديرًا عامًا للرقابة على المصنفات الفنية بروح الفنان وكان واسع الأفق على حد تعبيره، مستشهدًا بموقفه من إذاعة أغنية "يا مصطفى يا مصطفى" ومن ثم الفيلم.
وأضاف "الشناوى" فى تصريحات خاصة لـ"برلمانى"، أن "محفوظ" كان يمثل حالة خاصة من الرقباء، فهو لم يمنع "بوسة" –قُبلة- وكان يسمح بها على الشاشة، ولا يتدخل إلا إذا طالت فى عرضها ويعتبرها إثارة، لكن غير ذلك فصاحب الثلاثية لم يرفض أى ملابس مثل "المايوهات" ولم يحذف أى مشاهد.
وأتم "الشناوى" موضحًا: أن الأديب العالمى الراحل رفض عرض أى أفلام تكون مقتبسة من أعماله الرواية منعا للإحراج والشبهات.
استمر كاتبنا الراحل مديرًا عامًا للرقابة على المصنفات الفنية طيلة عام ونصف إلى أن تولى منصب رئيس جهاز السينما، والذى استمر به حتى خروجه إلى لمعاش عام 1971.
ويقول "محفوظ": ظللت فى موقعى كرقيب لمدة عام ونصف تقريبًا، وجاء خروجى منه كنتيجة أزمة رواية "أولاد حارتنا"، وتابع "ففى مجلس الوزراء شن الدكتور حسن عباس حلمى وزير الاقتصاد وقتها حملة على الدكتور ثروت عكاشة كانت وجهة نظر الأول أن "عكاشة" أسند مهمة الرقابة لرجل "متهم فى عقيدته الدينية".
وهو الأمر الذى جعل الدكتور ثروث عكاشة بطلب من الأديب الراحل ترك الرقابة والانتقال إلى رئاسة دعم السينما والتى كان تحت الإنشاء حينها.
وعن ذلك يقول الدكتور حسين حمودة: الوظائف الأخرى التى عمل بها محفوظ كانت مفيدة من حيث كونها نبعا ثريا للشخصيات والأحداث، وقد أفاد منها فى بعض رواياته، لكن منصبه مسئولا عن السينما كان خسارة له من الناحية المادية، لأنه أصدر قرارا فور توليه هذا المنصب بألا يتم تنفيذ فيلم عن أية رواية من رواياته، كما توقف منذ توليه المنصب هذا عن كتابة السيناريوهات، وقد كان هذا القرار جزءا من نزاهته الشخصية.
طيلة 37 عامًا، ظل نجيب محفوظ داخل أررقة أجهزة الدولة، انتهت بخروجه إلى المعاش، وعن إحساسه فى ذلك الوقت يقول فى محفوظ فى كتاب "أنا نجيب محفوظ: سيرة حياة كاملة" للكتاب إبراهيم عبد العزيز: إن إحساسى بالمعاش، كان الترحيب والتفاؤل والسعادة، وقد يبدو غريبًا فالموظف المحال على المعاش تعتريه كأبة من نوع خاص، لكنى أحس أن المعاش استمرار لحياتى العملية، بعد أن أتمتع بميزتين، أولاهما الحرية وثانيها التوحد للفن، أنا متلهف على التحلل من ذلك النظام الرهيب القاسى على فرضته على نفسى وأنا موظف، بل إننى لم أرتاح لفكرة مد الخدمة".