- إجهاض محاولات طهران وأنقرة لتقسيم سوريا ديموجرافيا بعد عجز واشنطن عن تقسيمها بالحرب الأهلية
من كان يصدق أن فصائل "جيش الإسلام" و"أكناف بيت المقدس" و"جيش الأبابيل" توقع فى القاهرة على اتفاق خفض التصعيد ، ممثلين عن المعارضة فى حضور ممثل وزارة الدفاع الروسية ? وكيف للإدارة المصرية أن تكلل الاتفاق بالنجاح رغم الأطماع التى تتنازع الأراضى السورية ورغم مئات المليارات من الدولارات التى أنفقت على تقسيم هذا البلد العربى ورغم التنسيق الأمريكى التركى الإيرانى على تقسيم سوريا إن لم يكن وفق برنامج أمريكى فليكن وفق برنامج تركى ، وإن لم يحدث فليدخل الوحش الفارسى ليضع بصمته على المناطق التابعة له ، تاركا منطقة تخص تركيا ومنطقة أخرى للأكراد وثالثة لذيول واشنطن ورابعة للنظام العلوى.
سوريا التى شهدت أراضيها تنازع كل قوى العالم فيما يشبه الحرب العالمية لتنفيذ مشروع كوندليزا رايس بنشر الفوضى الخلاقة بالمنطقة العربية ، وتعرضت لأكبر عدد من الضربات الجوية فى التاريخ قياسا إلى مساحتها ،و شهدت أكبر قصف مدفعى وصاروخى وإطلاق نار من الأسلحة الثقيلة والخفيفة على السواء ، وتمزق نسيجها الاجتماعى بزرع فصائل من المرتزقة والمتطرفين فى قراها ومدنها مع تهجير ملايين اللاجئين إلى كل بلاد العالم، الآن أصبحت على أعتاب السلام ، من كان يصدق أن أحدا يمكن أن يقف ويقول للجنون فى سوريا : لا ، من كان يصدق أن دولة مهما عظمت يمكن أن تقف وتقول للمشروع الجهنمى لتمزيق سوريا : لا ، وللحرب الأهلية : لا ، وللدمار الشامل : لا.
مصر العربية وحدها لم تتلوث أيديها بالدماء السورية ، رغم الإغراءات الهائلة والتهديدات المرعبة. مصر العربية وحدها لم ترسل مسلحين إلى الأراضى السورية ، ولم تتورط مع هذه الفصيلة أو هذا التنظيم ولم تصمت أو تهادن أمام مشروع التقسيم والتدمير الذى لحق هذا البلد العربى الجميل والعريق كما لحق غيره من البلدان ، ليبيا والعراق واليمن ، ودائما كان الصوت المصرى يقول للحرب الأهلية والتدمير والميليشيات المسلحة والمرتزقة الوافدين : لا ، ولمشروع التقسيم والتفتيت : لا ، كما كان يحذر المعسكر الأمريكى الأوربى من مغبة تقويض الدول العربية وكيف أن ذلك يعنى انتشار الإرهاب فى عواصم العالم أجمع ، وهو ما حدث بالفعل ودفعت دول العالم فاتورة باهظة.
نعود لاتفاق الهدنة الموقع فى القاهرة وهو حدث كبير وضخم بكل المقاييس ، فهو ليس مجرد اتفاق ، بل هو مشروع لتثبيت الدولة السورية فى مقابل مشروع تدميرها ، مشروح للإعلاء من وحدة الدولة واتساعها لكل الفرقاء والمختلفين مقابل مشروع تفتيتها إلى دويلات طائفية وإثنية، مشروع لإعادة الإعمار والتنمية وعودة اللاجئين من الشتات بدلا من تفريغ البلاد من سكانها وإعادة تصميم خريطتها الديموجرافية على أسس جديدة تضمن عدم استقرار المنطقة بأسرها مقابل منح إسرائيل فرصة ذهبية لاحتلال مزيد من الأراضى العربية والهيمنة على الإقليم.
القاهرة سعت ومازالت إلى وحدة الأراضى السورية وأن يكون تقرير المصير بأيدى السوريين وحدهم بعد وقف إطلاق النار وعودة اللاجئين وطرد الميليشيات والمرتزقة ونزع السلاح غير الشرعى ، بينما تسعى تركيا إلى قضم مزيد من الأراضى السورية وإقامة منطقة عازلة على طول حدودها مع سوريا بزعم منع إنشاء دولة كردية بين العراق وسوريا تمتد لتتلاحم مع مناطق الأكراد الأتراك ، وإيران تسعى إلى إقامة منطقة اتصال من طهران إلى بيروت وزرعها بالسكان الشيعة والعلويين ، حتى لو كان ذلك عبر التهجير القسرى من محيط دمشق وجنوبها واستبدال السكان السنة بغيرهم من العلويين دون النظر إلى الآثار التدميرية على المجتمع السورى ، ما دام الهدف هو السيطرة على القرار فى دمشق لعقود مقبلة ، أما واشنطن فلا يهمها إلى تقسيم سوريا بالحرب الأهلية أو عبر تدخل الناتو أو تمويل قطر للمرتزقة بالمال والسلاح أو حتى تدخل إسرائيل لتقصف مناطق تمركز الجيش السورى لإضعافه أمام الميليشيات الفصائل المسلحة.
وحتى ندرك قيمة وأهمية الإنجاز المصرى ، لابد أن نستعرض مسار الموقف المصرى على مدار سنوات الأزمة ، وخصوصا رفض الانجرار إلى أتون الحرب الدائرة هناك مع الإعلاء الدائم للمصلحة الوطنية السورية العليا ، ولعلكم تذكرون قرار مصر فى مجلس الأمن برفض توقيع عقوبات دولية على الحكومة السورية، بزعم استخدامها الأسلحة الكيماوية، وكيف انكشفت جميع المواقف الداعية إلى هذه العقوبات والمدافعة عنها وظل الموقف المصرى شاهقا وشاهدا على حرص القاهرة على مصالح الشعب السورى
ولعلكم تذكرون، كيف نالت القاهرة ثقة جميع الأطراف فى النظام والمعارضة السورية، وبالتالى جاءت تحركاتها لإقرار هدنة إنسانية فى حلب، وإدخال مساعدات الأمم المتحدة للمنكوبين مقبولة من الجميع، كما استهدف التحرك المصرى إيفاد مبعوث خاص إلى حلب للتشاور بشأن اتفاق لوقف إطلاق النار بشكل كامل، تمهيدا لبدء مباحثات سلام حقيقية للمرة الأولى، انطلاقا من وحدة الأراضى السورية، وحق السوريين وحدهم فى تقرير مصيرهم.
ولعلكم تذكرون أيضا ، كيف نجحت الإدارة المصرية بالتنسيق مع الجانب الروسى فى عقد اتفاقيتين مهمتين لوقف الحرب فى الغوطة الشرقية وفى ريف حمص، حتى لو كان ثمن ذلك غضب الخارجية الأمريكية وسعى تيليرسون إلى استصدار قرار باستقطاع أجزاء من المعونة الأمريكية لمصر.
الخلاصة ، أن الدولة المصرية تعمل بهدوء وإصرار على مواجهة الفوضى والدمار والقتل اليومى فى سوريا، وضد مشاريع إسقاط الدولة وتفتيتها ، واللحظة المقبلة هى لحظة استعادة الوعى السورى بضرورة الحفاظ على البلاد موحدة وغير مقسمة تحت أى ذريعة، بدعم مصرى يعيد حشد الإرادة العربية لتصب فى مصلحة الدولة السورية الموحدة وصاحبة السيادة والحاضنة لكافة أطياف الشعب السورى.
الدولة المصرية تعمل بهدوء وإصرار على وقف إطلاق النار فى جميع مناطق الاشتباك وطرد فلول المرتزقة من الأراضى السورية ، خاصة بعد حسم الجيش السورى لكثير من المعارك، ثم فتح باب العودة أمام المقاتلين السوريين المخدوعين بالشعارات الباطلة أو بالأموال الخارجية، وكذا بدء عودة السوريين المهاجرين فى أوروبا وفق مشروع أوربى ودولى لإعادة الإعمار، وفى ذلك إنقاذ لسوريا والمنطقة معا.
الدولة المصرية تعمل بهدوء وإصرار على تغليب مشروعها للسلام الخلاق على برنامج كوندوليزا رايس للفوضى الخلاقة التى عانت منه المنطقة العربية طوال السنوات الست الماضية ، ووفق المشروع المصرى ستعبر الدول العربية المخطط الاستعمارى الجديد وتتجاوز مخططات التقسيم والتفكيك إلى واقع أكثر تماسكا وصلابة.