45 عاما على انتصار أكتوبر، أحد ملاحم البطولة التى سطرها الجيش المصرى، بقيادة سياسية على رأسها الرئيس الراحل أنور السادات الرجل الذى واجه الضغوط الداخلية والخارجية، ونجح فى أن يخدع العدو على جبهات مختلفة، بخطة محكمة، وبالرغم من مرور كل هذه السنوات تبقى أسرار غرفة العمليات المصرية قادرة على إبهار العالم.
«حاولت أن أفى بما عاهدت الله وما عاهدتكم عليه قبل ثلاث سنوات بالضبط من هذا اليوم، عاهدت الله وعاهدتكم أن قضية تحرير التراب الوطنى والقومى هى التكليف الأول الذى حملته ولاء لشعبنا وللأمة».. هذا مقتطف من خطاب النصر التاريخى للرئيس الراحل محمد أنور السادات فى مجلس الشعب يوم السادس عشر من أكتوبر 1973، الذى تحدث فيه بكل فخر واعتزاز عن انتصار أعاد للأمة العربية كرامتها أمام العالم أجمع بعدما ظنوا أنها غطت فى نوم ولن يكون لها عودة من جديد.
عندما نتحدث عن نصر أكتوبر فإن هناك آلاف من القصص البطولية التى سطرت تلك الملحمة التاريخية إلا أنه يبقى محمد أنور السادات القائد العسكرى هو الرجل الذى كان سيتحمل المسؤولية بالكامل أمام التاريخ حال فشل خطة تحرير الأرض، وستلقى تلك البلاد مصيرا مجهولا إلا أنه نجح بكل بارع واقتدار بقيادة أبناء هذا الوطن بالعبور على كل الصعاب وليس خط بارليف فقط، ليظل ما فعله موضع دراسة للخبراء العسكريين فى كل أنحاء العالم فقد انهارت أسطورة الجيش الذى لا يقهر تحت أقدام المصريين وبقيادة حكيمة من السادات.
الحرب بالنسبة السادات لم تبدأ يوم السادس من أكتوبر عام 1973، إنما منذ توليه مسؤولية البلاد عقب رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، وكيفية الإعداد لتلك الملحمة الكبرى أمام عدو يتفوق فى كل شىء، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية على كل الأصعدة، وفى الوقت ذاته يعانى الاقتصاد إلى أقصى حد ممكن، كما أن آثار هزيمة عام 1967 لم تزل بعد.
ومثلما أوضح السادات فى مذكراته البحث عن الذات: إن الخطة الدفاعية 200 التى تسلمتها من عبدالناصر قد انهارت.. فقبل أن يموت عبدالناصر بشهر واحد دعانى وذهبنا معاً إلى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة، وهناك جمع القادة المصريين والخبراء السوفييت ومحمد فوزى، وزير الحربية فى ذلك الوقت.. ووقف القادة المصريون والخبراء السوفيت لمدة 7 ساعات أمام عبدالناصر وأمامى يشرحون الخطة الدفاعية 200 التى أقرها الجميع.. كان هذا الوضع العسكرى الذى تسلمته من عبدالناصر.. خطة دفاعية سليمة %100 ولكن لا وجود لخطة هجومية».
الطريق نحو النصر بالنسبة للسادات كان صعبا على كافة الأصعدة، فالكثيرون كان يشككون فى قدرة القائد الأعلى على قيادة قواته المسلحة للانتصار، إلا أن السادات كان واثقا من نفسه ولم يهتز من الضغوط المحيط به، وهذا ما أوضحه الكاتب الصحفى موسى صبرى فى كتابه «وثائق حرب أكتوبر»، حيث يقول: كان يحارب فى أكثر من جبهة.. جبهة الداخل التى تكتلت فيها غالبية قوى اليسار المتطرف بين الصحفيين وامتدت اتصالاتها إلى فريق من الطلبة، مضيفًا: أيضًا الجبهة العربية.. وشروخ الموقف، بعد الأزمات مع السودان، ثم مع ليبيا، وتشكك دول عربية أخرى فى نوايا الرجل.. هذا فى الوقت كان يقاسى فيه الأمرين فى سبيل الحصول على الأسلحة من كل مكان.
وتابع: «وفى الوقت الذى بذل فيه جهدًا دبلوماسيا جبارا على المسرح الدولى غربًا وشرقًا.. لوضع الدول عند مسؤولياتها أمام خطر الأزمة.. وتهيئة الرأى العام الدولى لتقبل المعركة عند وقوعها، مضيفًا: «ولكن أحدا، لم يقدر حقائق الموقف.. ولا حقائق نوايا الرجل حق قدرها.. وحتى الصحف العالمية، بدأت تنشر النكت، ومنها ما نشرته النيوزويك نقلا عن ألسنة عربية.. بأن السادات رجل أسمر، يجيد الخطابة، ويحكم مصر بعد وفاة عبدالناصر.. وهواياته وقف إطلاق النار!».
موسى صبرى أشار فى فصل بكتابه تحت عنوان: «الشكوك.. والخوف من معركة خاسرة» إلى أن الحرب النفسية للأعداء أثرت على بعض النفوس.. وزادت شكوك العالم العربى بأن مصر لن تحارب، لذا بدأت التساؤلات، مثل هل نستطيع أن نضمن الانتصار.. هل يمكن أن ندخل معركة «كسبانة» مائة فى المائة؟.. وكيف نقاوم التفوق التكنولوجى لإسرائيل»، موضحًا أن أنور السادات كان يواجه كل هذا التساؤلات فى نفوس الجماهير.
وبخلاف تساؤلات الجماهير، فإن الضغوط من الخارج والاستخفاف بقدرة مصر على النصر لم تكن بالأمر الهين، فعلى سبيل المثال، قال وزير الخارجية الأمريكى البارز آنذاك، هنرى كيسنجر، وفقا لما ورد فى كتب البحث عن الذات: «نصيحتى للسادات أن يكون واقعيًا، فنحن نعيش فى عالم الواقع، ولا نستطيع أن نبنى شيئًا على الأمانى والتخيلات.. والواقع أنكم مهزمون، فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر، لابد أن تكون هناك بعض التنازلات من جانبكم حتى تستطيع أمريكا أن تساعدكم».
وتابع كيسنجر: «فكيف يتسنى وأنتم فى موقف المهزوم أن تملوا شروطكم على الطرف الآخر.. إما أن تغيروا الواقع الذى تعيشونه، فيتغير بالتبعة تناولنا للحل.. وإما أنكم لا تستطيعون، وفى هذه الحالة لابد من إيجاد حلول تتناسب مع موقفكم غير الحلول التى تعرضونها».
وفى ظل هذا الكم من الضغوط الداخلية والخارجية على السادات، يتبادر للأذهان سؤال كيف اتخذ قرار الحرب الصعب بعد سنوات من الصبر؟ وقد أجاب عن هذا التساؤل بنفسه، كما نقله موسى صبرى فى وثائق حرب أكتوبر: «أشهد بأن إرادة الله هى التى اتخذت قرار المعركة.. هذا قدر.. لم يصبح أمامنا من حل إلا أن نحمل السلاح لنحرر الأرض ونرفض الاستسلام.. ليس هناك حل وسط.. الشعب رفض الهزيمة.. وهذه هى فلسفة الشعب.. علينا أن نتحمل كل العقبات والتضحيات.. أو نختصر الطريق ونسلم ونحل القوات المسلحة، ونقبل شروط العدو، ونعيش إلى الأبد أذلاء.. وربما لاجئين».
«أسرار عسكرية خطيرة يكشفها أنوار السادات» ينقلها عنه موسى صبرى: لم أنم فى بيتى.. كنت قد اخترت قصر الطاهرة لإقامتى وقت المعركة.. وأعددنا به غرفة عمليات كاملة تحت الأرض بديلة لغرفة العمليات القريبة من قصر الطاهرة.. ومنها نتابع العمليات دقيقة بدقيقة مثل الغرفة الأصلية تماما.. وكنت أعرف أن الموقف سوف يقتضى لقاءات سياسية دولية، ولذلك اخترت المكان القريب من عملى السياسى.. وفى الوقت نفسه لم يكن أحد يدرى أنه يشكل مركز قيادة عسكرية.. وأذكر فى تلك الليلة أننى آويت إلى فراشى فى موعدى المعتاد.. وكنت قد أمضيت يوم الجمعة عادى جدًا.. وصليت الجمعة فى كوبرى القبة فى الزاوية التى تعلمت فيها الصلاة منذ خمسين عامًا».
وتابع السادات: «عدت إلى قصر الطاهرة.. وأعطيت تعليمات يوم.. واتصل بى الفريق أحمد إسماعيل، وسألنى متى سأحضر فى الصباح إلى غرفة العمليات فطلبت منه أن يمر على فى اليوم التالى الساعة الواحدة والربع بعد الظهر.. أى قبل ساعة الصفر بـ45 دقيقة.. ونمت ملء جفونى.. واستيقظت فى الصباح كعادتى»، وهنا سأله موسى صبرى الساعة كام؟!، وقال الرئيس: الساعة 8 صباحا.. أنا لا أنام بعد هذه الساعة.. وبدأت بقراءة الصحف كالمعتاد.. ولعبت بعض التمرينات السويدى.. وأخذت حمامى.. ثم ارتديت ملابسى.
ثم سأله موسى صبرى العسكرية؟، وقال الرئيس: نعم ثم باشرت عملى كالمعتاد.. مر على الفريق أحمد إسماعيل فى الساعة الواحدة والربع تمامًا.. وبعد 10 دقائق كنت فى غرفة العلمليات.. فالمسافة قريبة.. الساعة 1.30 صدر البيان الخاص باعتداء اليهود علينا».
وتابع الرئيس حديثه: «وهنا حدث شىء لطيف.. أنا كنت عاطى أوامر لأولادى فى القوات المسلحة أنهم يفطروا.. كثير من الأولاد الشياطين دون ما سمعوش الكلام ودخلوا المعركة صايمين.. أنا فى القيادة مش واخد بالى.. مش شايف واحد فيهم بيدخن.. متحرجين لأننى لم أدخن أو أطلب أى شىء.. رحت طلبت فنجان شاى.. وجابولى «البايب» من العربية.. وبدأوا بعد كلهم يدخنوا».
الحوار السابق، يكشف كيف كان يتمتع السادات بهدوء أعصاب فى هذه الليلة الحاسمة فى تاريخ هذا الوطن؟، إلا أن عبقرية رجال القوات المسلحة، وما بذلوه من جهد خرافى للاستعداد للمعارك يعتبر عاملا كبيرا فى تمتع السادات بتلك الحالة الواثقة من النصر.
وعن الساعات الأخيرة للمعركة يقول المشير محمد عبدالغنى الجمسى، أحد قادة نصر أكتوبر: «واستمرت عجلة الاستعداد للحرب دون أن تتوقف لحظة، إلى أن جاءت الأيام القليلة الباقية قبيل نشوب الحرب، حيث كان العد التنازلى لدخول الحرب قد بدأ فعلا، وفى يوم 30 سبتمبر 1973، اجتمع مجلس الأمن القومى بدعوة مفاجئة من الرئيس السادات، جرى فيه استعراض للموقف من جوانبه السياسية والعسكرية.
وفى نهاية الاجتماع أجمل الرئيس السادات الموقف فيما يلى: حتمية المعركة والانتقال من الدفاع إلى التعرض، طالما استمرت إسرائيل تمارس سياستها على أساس أنها قوة لا تقهر وتفرض شروطها، وكذلك الدخول لـ«منطقة الخطر»، وأن استمرار الوضع الحالى هو الموت المحقق، وأن الأمريكيين يقدرون سقوط مصر خلال عامين، ولذلك فبدون المعركة سوف تنكفئ مصر على نفسها، وكذلك المرور بأصعب فترة.. لا قرار أخطر من القرار الذى نحن بصدده، وعلينا كسر التحدى».
ووفقا لمذكرات الجمسى فإن نصر أكتوبر كلها لم تكن مسألة تحدٍ فقط بل كانت هناك حسابات وخطط تدلل على عبقرية العسكرية المصرية حتى فى التفاصيل البسيطة، يذكر موقف ورد ضمن خطة الخداع الاستراتيجى للعدو وفى كتاب وثائق حرب أكتوبر، وتحديدًا الفصل الحادى عشر حقائق الثغرة، يوضح موسى صبرى، كيف كان السادات دقيقًا فى حساباته، وكذلك كان لديه بعد نظر، ويبرهن بموقف جمع السادات بالجمسى: الرئيس السادات يسال الجمسى: هل قرأت عن غزو نورماندى فى الحرب العالمية؟، يجيب: «نعم.. يا سيادة الرئيس»، السادات: «خذ هذا الكتاب، واقرأه جيدًا.. أعتقد أنه سيفيدك، وكان الكتاب الصغير، باللغة الإنجليزية، أعطاه للواء الجمسى الذى قرأه عدة مرات.. ولاحظ أن الرئيس وضع خطوطا وملاحظات على بعض سطور وفقرات من الكتاب.. أن هناك أوجه شبه فى بعض النواحى العسكرية بين إنزال قوات الحلفاء.. فى نورماندى.. وبين عبور قواتنا إلى شرق القناة.. تلك عملية إنزال قوات فى أرض يحتلها عدو على نطاق واسع»، ويعلق موسى صبرى: «عرف الجمسى من ملاحظات الرئيس المكتوبة، على صفحات الكتاب، ماذا يدور فى ذهن القائد الأعلى عن المعركة وإمكانيات العبور كان ذات يوم فى أغسطس من عام 1971».
حسابات السادات لخوض المعركة لم تمنع من وجود الثغرة الشهيرة، إلا أن السادات نجح فى مواجهة الموقف، وحتى عندما وافق قرار وقف إطلاق النار كان لديه مبرر حكاه فى كتابه البحث عن الذات: «وفى هذه الليلة 19/20 أكتوبر «يقصد 20/21» اتخذت القرار بوقف إطلاق النار، فقد كان لى عشرة أيام أحارب فيها أمريكا وحدى بأسلحتها الحديثة التى يستخدم أغلبها من قبل».
ورغم قرار وقف إطلاق النار، كان للسادات خطة شاملة لتدمير الثغرة، ووفقا لكتاب مذكرات حرب أكتوبر لموسى صبرى: «قال لى الفريق الجمسى رئيس أركان حرب القوات المسلحة اتخذ القائد الأعلى قرار مقاومة الثغرة الإسرائيلية عسكريا فى 19 أكتوبر 1973، مضيفًا: «لقد تم إيقاف النار الفعلى ظهر يوم 28 أكتوبر، بعد وصول قوات الأمم المتحدة.. واعتبارا من 31 أكتوبر بدأنا تنفيذ حرب استنزاف مخططة ضد العدو غرب وشرق القناة.. كانت أمامنا مهمة رئيسية وهى ألا نسمح للعدو أن يتمركز ويثبت أقدامه فى الغرب، كان هذا عملا يوميًا للقوات المسلحة إلى أن يبدأ الهجوم لتصفية هذا الجيب بعملية شاملة».
تبقى قيادة السادات لحرب أكتوبر واحدة من العلامات التى لا تنسى فى التاريخ، قاد هذا الوطن فى أشد الظروف ولم يهتز ولم يلن حتى أنه على المستوى الشخصى والعائلى قدم للوطن شهيدًا، هو شقيقه النقيب طيار عاطف السادات الذى يعتبر من أوائل شهد الحرب بعدما شارك فى الضربة الجوية الأولى، واحتسبه عند الله شهيدًا مثل الآلاف من أبناء الوطن الذين قدموا أرواحهم فداء لتحرير تراب هذا الوطن.