هل أحدثت ثورة 30 يونيو فارقًا فى بنية الدولة المصرية؟ سؤال قد يبدو غريبًا وسط السياق الاجتماعى والسياسى الراهن، خاصة أن كثيرًا من التفاصيل المحيطة تشير إلى تغير وتبدّل عميقين فى وجه الدولة وآلية العمل، أو هكذا يبدو من النظرة العابرة، فقد تخلصنا بفضل قوة الدفع الشعبية فى 30 يونيو من قوة راديكالية متطرفة فرضت حضورها العنيف على قمة الهرم السياسى المصرى، واستعدنا جانبًا من مدنية الدولة، وأعدنا صياغة مؤسسات مصر وفق صيغة أخرى مغايرة لما دأب "الإخوان" وحلفاؤهم على تدشينه وإقامة معماره، بعيدًا عن ماهية الصيغة نفسها وحجم الاتفاق والاختلاف حولها، ولكن رغم هذا فإن الحقيقة العميقة - مع النظر الفاحص والبصير لجوهر الأمور - قد تشير إلى تشابهات وتماثلات قوية وحادة بين ماكينة العمل السياسى والأمنى قبل 30 يونيو وبعدها/ قبل "الجماعة الإرهابية" وبعدها، وتحديدًا فيما يخص وزارة الداخلية وآلية تعاملها مع الشارع والأصوات الخارجة على المدونة الرسمية للحكومة، سواء كانت حكومة هشام قنديل أو حكومة شريف إسماعيل، وفى زمن محمد مرسى أو زمن عبد الفتاح السيسى.
وزارة الداخلية.. محبة النظام "ولو كره القانون"
ربما يرتّب الواقع وحقائق الأرض والقوة منطقًا عمليًّا ضاغطًا للمؤسسة الأمنية، وزارة الداخلية، بوصفها سلطة القمع المنظم والقانونى، واليد المتنفّذة فيما يخص صيانة الأمن الداخلى للبلاد وإنفاذ قانونها على مواطنيها، وفق الآلية التى ارتضاها الشعب بمؤسساته وأقرّها المجموع أداة ردع للشاذين والخارجين على مدوّنته القيمية وأعرافه الاجتماعية والأخلاقية، والمنطق الذى يفرض نفسه على أجهزة "الداخلية" وأذرع المؤسسة الأمنية من هذا الوجه، لا يتوقف فقط على المواءمات العملية وطبيعة النص القانونى ومقتضيات الموقف الدرامى الذى يصطدم فيه رجل الأمن بمطرقة الشارع وسندان التشريع، ولكنه ينحو وجهة متصلة بالبنية التنفيذية القابضة على مقاليد العمل داخل النظام، وحجم المواءمات والرؤى والانحيازات التى يتبناها رأس السلطة، أو يتخيل جهاز الأمن أنه يتبناها، وأن إنفاق الوقت والجهد فى خدمتها قد يوافق قبولًا ورضا لدى الرؤساء المباشرين وغير المباشرين، ومن هذه الزاوية يتفنّن الجهاز الأمنى فى إرضاء المستويات التنفيذية المجاورة له والمتقدّمة عليه، إما استجابة لأوامر وتوجيهات مباشرة، أو تحقيقًا لأهداف وغايات متخيلة وفق منطق "المبالغة فى التقارب واصطياد قبول السادة"، وهو ما وضع الداخلية على امتداد عقود وسنوات ماضية فى خانة النظام الحاكم بقدر كبير، مقابل انتزاعها بالقدر نفسه من خانة صيانة القانون وإنفاذه وعضوية العمل المنى وفق صيغة اجتماعية وإنسانية ناضجة، أو بشكل أكثر مباشرة ووضوحًا، أخرج الجهاز الأمنى من دائرة الحياد والموضوعية "التكنوقراطية"، إلى دائرة المحبّة المباشرة للنظام، بهيكله وشخوصه، حتى ولو كره القانون.
صورة المحب للنظام هى الصورة الأبرز والأكثر التصاقًا بوزارة الداخلية على امتداد تاريخها، وتتبع مدوّنة الجهاز الأمنى تاريخيًّا وعمليًّا، منذ تأسيس محمد على لما عُرف بـ"ديوان الوالى"، أو تأسيس الخديو سعيد لـ"نظارة الداخلية" لتكون الصيغة الأكثر نضجًا وتماسكًا للجهاز الأمنى، والجد الأكبر للوزارة فى صيغتها الراهنة، عبورًا بسلسلة الحكام من أسرة محمد على، ثمّ نظام يوليو برؤسائه المتتابعين، وصولًا إلى مبارك ومحمد مرسى وحتى الآن، غالبًا ما ستجد وزارة الداخلية فى حضن النظام الحاكم، وربما لا يكون هذا الأمر مأخذًا فى ذاته، ولكن ما تتبعه من ممارسات مجافية للقانون فى جانب منها، وتفانى رجال الأمن فى إنفاذ هذا المنطق حتى ولو اعترض القانونيون والفقاء، ونطق الدستور ورفض، هو ما يضعنا أمام علامة الاستفهام المتبوعة بتعجب كبير، حول السبب الفنى أو العملى أو الوطنى أو القانونى للتمترس فى هذا الخندق، والمزايدة على هذا الانحياز.
ثقافة الحصار.. من المحكمة الدستورية إلى نقابة الصحفيين
الممارسات المثيرة للغرابة والاستفهام، التى يتورط فيها الجهاز الأمنى كثيرًا، لا تتوقف فقط على موقفه من التحركات القانونية والوجوه السياسية العاملة فى المجال العام، وفق صيغة قانونية معلنة، فرغم ما يتجلّى فى هذا الوجه من مخالفات وتحركات لتحجيم المجال العام، وفرض قبضة ضاغطة على العاملين فيه، إلا أن الصورة الأكثر غرابة وفداحة تتصل بالوجه المقابل، وهو رعاية الموجات المضادة للقانون، أو الصمت عليها، أو دعمها، أو الحياد أمامها.
ربما يكون من قبيل التزيّد، الذى لا طائل من ورائه ولا جديد فيه، أن نتحدث عن مسلسل طويل من الاعتقال الإدارى خارج منظومة القانون، وعن التعسف فى تطبيق قانون الطوارئ فى وقت سابق، وعن مخالفات قانون الإجراءات الجنائية، وغير ذلك من المآخذ والملاحظات، التى يمكن تسجيلها على الجهاز الأمنى، ولكن التورط فى جانب الانحياز غير القانونى - وعلى كثرة ما يتجسّد فى مواقف وظلال وسياقات- كان حادّ الظهور والوضوح والبلاغة، بيانًا وكشفًا، مع حصار أعضاء جماعة الإخوان الإرهابية لمبنى المحكمة الدستورية العليا فى ديسمبر من العام 2012، عقب إصدار الرئيس المعزول محمد مرسى لما عُرف بـ"الإعلان الدستورى"، الذى يحصّن قراراته ويُحصّن البرلمان، الذى سيطرت عليه الجماعة، ومع عدم اعتراف المحكمة الدستورية بهذا الإعلان، واستعدادها لنظر طعن على قانون الانتخابات، الذى جاء المجلس وفقًا له، شعرت الجماعة بتهديد كبير أحد أذرعها المهمة، فدفعت أعضاءها وأنصارها لحصار المحكمة وتعطيلها عن العمل، خاصة أن قانون "الدستورية" لا يجيز لها الانعقاد خارج مقر المحكمة، بينما وقفت وزارة الداخلية موقف المشاهد والصامت على خرق القانون وتعطيل واحدة من مؤسسات الدولة المهمة، منحازة لنظام الجماعة الإرهابية، وخارجة على القانون المنوط بها الانتصار له والتشدّد فى تطبيقه وإنفاذه، لتثبت أنها ترتكن إلى منطق القوة السياسية والتنفيذية، وتحب النظام فعلًا، حتى ولو كره القانون وأبى هذه المحبة.
الموقف الكاشف الثانى فى هذا السياق، كان مع قرار السياسى حازم صلاح أبو إسماعيل، الذى يقضى الآن عقوبات بالسجن فى عدد من القضايا، والذى رأى فى شهر مارس من العام 2013 أن وسائل الإعلام لا تعمل لصالح النظام الحكام – نظام الجماعة الإرهابية – وتقود موجة مضادّة له ولقراراته وانحيازاته، فقرر محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامى مستخدمًا مئات من تابعيه وأنصاره، وأنصار وتابعى الجماعة الإرهابية، لتعطيل القنوات التليفزيونية والإعلاميين عن مهامهم وإسكات الأصوات المعارضة لنظام الجماعة، وهو ما قابلته الداخلية بالصمت والحياد الرمادى، رغم ما ينطوى عليه هذا التحرك من تهديد للسلم والأمن، وتعطيل لمرفق عام، وإرهاب لمواطنين كان كل ذنبهم أنهم إعلاميون يمارسون عملهم ويؤدون رسالتهم، وهى الرسالة التى أسهمت بقوة فى نقض أعمدة النظام الإخوانى، ودعم التحركات الشعبية، التى قادت إلى ثورة 30 يونيو.
المفارقة الكبيرة، أن التحولات التى أحدثتها الشهور الماضية وما شهدته من تبدلات سياسية وتنفيذية كبيرة، تركت بصمتها على الجهاز الأمنى بما يفوق التحولات الطبيعية، فبينما أخلصت "الداخلية" فيما مضى لفكرة المحبّة للنظام الإخوانى والصمت على تجاوزاته، سارت بها الحال الراهنة إلى مفارقة الصمت والحياد الرمادى، لتضطلع بنفسها بمهمة الحصار والتعطيل، وفق المشاهد العملية وما رواه شهود العيان – وكنت واحدًا منهم – بشأن انتشار من يُعرفون بـ"المواطنين الشرفاء" فى محيط نقابة الصحفيين، أمس الأربعاء، وتحرّشهم بالصحفيين من أعضاء وعضوات النقابة، وإهانتهم والتعدّى عليهم، تحت سمع وبصر الداخلية وفى حمايتها، فيما يبدو أنه تطور تكتيكى فى آلية تعطيل المواجهات القانونية مع التجاوزات والخلافات العادية بين أجنحة الدولة، فى مستوياتها الرسمية أو مع النقابات والمؤسسات الأهلية، ما يفتح قوسًا واسعًا ويضع سؤالا مختومًا بعلامات استفهام لا حصر لها، حول وجاهة الموقف، الذى يتّخذه الجهاز الأمنى، ومبرراته الوطنية والقانونية والموضوعية، وحجم التعارض بين هذا الموقف وما يُفترض أن يكون مهمة الجهاز وعمله الحقيقى، وهل يليق بـ"الداخلية" أن تكون راعية للخروج على القانون؟
الحصار.. تأمين أم محاولة لفرض الصمت؟
المشكلة الكبيرة - فى قراءة الصورة الراهنة وعلاقتها بممارسات جماعة الإخوان الإرهابية وأنصار حازم أبو إسماعيل وداعميه، مع الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامى- أن فى دولة القانون يتعين على الجهاز الأمنى أن يعمل وفق رؤية استباقية، لا أن يكافح الجريمة أو يتلافى آثارها بعد وقوعها فقط، وفى حالتى الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى لم يعمل الأمن برؤية سابقة أو لاحقة، ترك الأمور للتوتر، وصمت على تجاوز القانون على نيل القاهرة وفى أطراف الجيزة، ورغم هذا كان التجاوز الأمنى محصورًا فى منطقة الصمت والحياد الرمادى، الذى وإن كان لا يليق بمؤسسة أمنية، إلا أنه كان يحمل مبرّرًا ما - وإن كان واهيًا - يستند إلى أن هذا الخروج السافر على القانون ينفّذه أنصار الرئيس المعزول والجماعة الإرهابية الحاكمة، وأنه ليس شرطًا أن تكون المحبة سبب كفّ يد الداخلية عنهم، فربما كان الخوف السبب! الآن لم يعد هذا الاحتمال قائمًا فى حالة نقابة الصحفيين، فما بين رأى يؤكد استعانة الداخلية ببعض المسجلين والخارجين على القانون والمواطنين البسطاء وسكان العشوائيات، أو التركيبة المعروفة بـ"المواطنين الشرفاء"، وأنها أقلتهم فى سياراتها وسيارات حلفائها من بعض التجار ورجال الأعمال، ورأى آخر يرى أنها دعمتهم وساندتهم على أرض الواقع، تظل الحقيقة العملية التى تكشفها الصور، هى أن الخروج على القانون هذه المرة فى قلب القاهرة، ومع نقابة رأى، وأن الجهاز الأمنى رصده وشاهده وتابعه وصمت عليه طوال ساعات، لم يتحرك لمنعه أو إيقافه أو تأمين الصحفيين وضبط البلطجية، رغم أنه الآن يستند إلى قانون تظاهر لم يكن موجودًا فى حالتى المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى، إذ أقره الرئيس المؤقت عدلى منصور عقب ثورة 30 يونيو، وهو القانون نفسه الذى طبّقه على عشرات المتظاهرين يوم "جمعة الأرض" فى الخامس عشر من أبريل الماضى، فهل حضرت الداخلية يوم الجمعية العمومية للصحفيين من أجل التأمين أم محاولة لفرض الصمت؟
العقلية النظامية ذات الصيغة "العسكرية" التى تسيطر على جهاز الشرطة، بدءًا من إعداد أفراده وحتى تنظيم أعماله ومهامه، تنسحب بشكل إرادى، أو لا إرادى، على اشتباك الجهاز مع المجال العام واللاعبين فيه من مختلف الفئات، سياسيين كانوا أو أصحاب رأى، ما يفرض سؤالًا مركزيًّا حول صلاحية الهيكل الحالى للداخلية لأن يعمل ويقوم بالمهام المنوطة به وفق صياغة عاقلة ومتّزنة، وحجم الهيكلة وإعادة الصياغة وإعادة تأهيل الضباط والأفراد وصياغة مدوّنة العمل الحاكمة للوزارة، حتى نخرج من حالة "محبة النظام ولو كره القانون"، ومن الصمت والحياد الرمادى، ومن دعم وحماية "المواطنين الشرفاء"، وحتى لا تصبح مؤسسة إنفاذ القانون راعية للخروج على القانون.