حالة من الجدل والتقابلات تشهدها ساحة الفكر الدينى طوال السنوات الماضية، على خلفية الحديث عن أزمة كبيرة يواجهها الخطاب الدينى الراهن، وتورط المؤسسات الدينية وأجنحة الدعوة والجماعات والمؤسسات الأهلية ذات الخلفيات الدينية، الأصولية أو غيرها، فى خطاب ماضوى جامد، يحتاج إلى مجاراة فقه الراهن والوقوف على آفاق التقدم والتنوير، بغية إنجاز خطاب إسلامى عصرى، يستجيب لمقتضيات الراهن، ويقف على مقاصد الشريعة الإسلامية وفق صيغة حداثية تقدمية، وهى الدعوة التى بدأت تتردد فى ساحة الفكر والعمل الدينى المصرية منذ عقد أو أكثر، وتواصلت خلال الفترة الأخيرة على خلفية تصاعد المد الأصولى الراديكالى، واشتعال موجات العنف والإرهاب التى تقف وراءها جماعات ذات خلفيات دينية، ما دفع الرئيس عبد الفتاح السيسى لمطالبة مؤسسة الأزهر، بالعمل على تجديد الخطاب الدينى، وهو ما تبعه حديث الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، والدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، والدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية، عن جهود عملية متواصلة لتجديد الخطاب الدينى، وإنتاج رؤى فقهية وشرعية توافق الراهن الاجتماعى والسياسى.
حزب "النور" السلفى يدخل ساحة الحديث عن "تجديد الخطاب الدينى
حديث الرئيس وشيخ الأزهر ووزير الأوقاف ومفتى الجمهورية عن تجديد الخطاب الدينى، وجد أصداء واسعة لدى فئات وتيارات عديدة من اللاعبين فى ساحة الفكر الدينى أو المهتمين به، لتنضم أسماء عديدة من رجال الأزهر وأساتذة الدراسات الإسلامية والعاملين فى حقل الدعوة إلى كتيبة العمل، أو المناداة، بتجديد الخطاب الدينى، ولكن المفارقة فى الأمر أن الدعوة المتواترة لتجديد الخطاب الدينى والخروج من عباءة الخطاب القديم، الماضوى الجامد، وجدت استجابة من بعض حراس القديم وكهنته، ربما فى إطار الاستجابة الموضوعية الحقيقية، أو فى إطار المناورة السياسية والتقارب مع الدولة ومؤسساتها، أيًّا كانت مبررات الاستجابة، جاءت الصورة على هذا الشكل المفارق، لنجد مبادرة من حزب "النور" السلفى، المؤسس على رؤى وتوجهات فقهية أصولية، تدعمها الدعوة السلفية بمحافظة الإسكندرية، ووجها البارز ياسر برهامى، وهى الدعوة المعروفة بثباتها الفكرى والفقهى ومحافظتها الشديدة وتقديسها للأصول والموروثات النصية والفقهية، إضافة إلى مدونتها الفقهية وتصريحات رموزها، سواء برهامى أو عبد المنعم الشحات أو غيرهما، فيما يخص العلاقة مع الآخر الدينى ومع فكرة الوطن ومع الأعياد والاحتفالات الوطنية والاجتماعية، فهل يثور حزب النور على ياسر برهامى وعبد المنعم الشحات وآبائه الروحيين؟ سؤال قائم ومهم لفهم المغزى والغاية والمحطة النهائية التى قد يصل إليها الحزب فى طابور الباحثين عن التجديد.
الاستجابة الجديدة للحزب لدعوات التجديد والخروج من أسر الثبات والجمود، تمثلت فى إعداد مشروع قانون لتجديد الخطاب الدينى، وهى فى ذاتها مفارقة ذات ملمح كوميدى ملفت، ولكن حدّة المفارقة وكوميديتها تزداد مع المعلومة الأكثر إدهاشًا فى الموضوع، والمتمثلة فى اعتماد الحزب على الشيخ السلفى الشهير محمد حسان فى مشروعها، حسبما أكدت مصادر من داخل حزب "النور".
محمد حسان.. حارس الأصولية ورجل السلفية "المتشدد"
المدهش فى مسألة اعتماد حزب "النور" السلفى على الشيخ محمد حسان فى إعداده لمشروع قانون لتطوير الخطاب الدينى، أن "حسان" أحد أبرز شيوخ السلفية المعروفين بثباتهم الفكرى والفقهى، وكثيرون من العاملين فى حقل الدراسات الإسلامية والعمل الدعوى والفقهى يحسبونه على الفصيل المتشدد فى التيار السنى الأصولى، وهو الأمر الذى تدعمه آراؤه وفتاواه المسجّلة عبر عشرات الحلقات والمقاطع المصورة له عبر مواقع التواصل الاجتماعى والمواقع الإخبارية المختلفة، ما يثير – إلى جانب المفارقة الكوميدية الملفتة – إضاءات وتساؤلات حول قدرة محمد حسان، ومن هم من التركيبة ذاتها، على التعامل مع مقتضيات العصر وفضاءات المستقبل وتقديم رؤى توفيقية بين الإسلام والراهن، سعيًا إلى إنتاج خطاب دينى جديد لا يتجاوز فى حق الدين، ولا يتجاوز فى حق الدنيا أيضًا.
بطل مشروع "النور".. من التجديد بالقانون للتجديد على شاشة التليفزيون
مساهمة محمد حسان فى مشروع حزب "النور" السلفى لإعداد قانون بشأن تجديد الخطاب الدينى ليست المفارقة الوحيدة فى هذا السياق، إذ يبدو أن اللعبة، أو خطاب التجديد وارتداء عباءة العصرية، أعجبت الشيخ السلفى الشهير، فقرر أن يعتمدها بشكل مكثف وواسع خلال الفترة المقبلة، ومن هذا المنطلق لم يقنع بدوره الاستشارى فى إعداد قانون "النور"، وقرر أن ينزل الملعب بنفسه، بطلا ومهاجمًا ولاعبًا أساسيًّا، عبر التجهيز لبرنامج تليفزيونى فى شهر رمضان حول المحور نفسه، محور تجديد الخطاب الدينى.
البرنامج الجديد الذى يستعد له الشيخ السلفى - وحسبما صرح شقيقه ومدير أعماله، محمود حسان، لأكثر من جهة - يتمثل فى حلقات تليفزيونية خلال موسم رمضان المقبل، حول العنوان العريض "منهج النبى فى دعوة الآخر"، ووفق تصريحات محمود حسان فإن الشيخ السلفى الشهير يتناول من خلال الحلقات كيفية تجديد الخطاب الدينى، دون أن يقترب الشقيق ومدير الأعمال من الآلية أو الخطوط العريضة أو منطقية الأمر، بينما تحفظ الذاكرة البصرية والسمعية عشرات المواقف والشرائط والتسجيلات والمقاطع المصورة، مئات الآراء والفتاوى والأفكار، التى تمثل إجحافًا كبيرًا لمنطق الدعوة وللفكر الدينى وفقه الواقع والعصر، متجاوزًا كثيرًا من الآراء والأفكار التنويرية التى أنتجها عشراء الفقهاء والعلماء على مدار قرون ماضية، بدءًا من ابن رشد وابن حزم، ووصولاً إلى جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، وهو المنجز التنويرى الطويل وواسع العطايا، الذى لم يؤثر فى الشيخ السلفى أو يأخذ بيده باتجاه ضفة التطوير الفقهى والفكرى، بينما يحاول الآن أن يقدم طرحًا جديدًا تحت لافتة "تجديد الخطاب الدينى" بينما ما زال يحمل آراء سلبية فى طابور العلماء التنويريين، وليس فقط ضد الآخر الدينى أو السياسى أو الجغرافى.
أمام مشروع النور، الذى قد تحسُن فيه النوايا وينتج شيئًا جديرًا بالوجود والطرح والمناقشة، وأمام مشاركة الشيخ السلفى الشهير، محمد حسان فى المشروع، واضطلاعه بمشروع آخر بمفرده، عبر قناة "الرحمة" المملوكة له، يظل الرهان قائمًا على إخلاص النوايا، والثقة معقودة فى البرلمان القائم فيما يخص القانون، وأن هناك من سيتصدون له تحت القبة إن لم يوافق نصيبًا من التجديد والطرح العقلانى الناضج، وهى الآلية الكافية لترشيد وقمع التجاوزات او محاولة التيارات الأصولية لتقنينها، إن كانت ثمة نوايا قائمة لهذا، ولكن يظل الأمر صعبًا ومقلقًا على صعيد المشروع التليفزيونى وفكرة البرنامج الجديد التى يستعد لها "حسان"، إذ من المنتظر أن تصل الرسالة من المنتج إلى المستهلك مباشرة، دون لجان أو قبة أو مناقشات، ما يفتح قوسًا واسعًا على سؤال مهم حول محتوى الخطاب المنتظر من أحد الدعاة المتشدّدين وأصحاب الرؤى الثابتة والجامدة فكريا خلال السنوات الماضية، وهل من المتوقع أن يأتى التجديد من عباءة "كهنة القديم" أو يتيسّر لهم أن يقولوا جديدًا أو يصيبوا تجديدًا؟!