رغم فداحة الحادث الذى فوجئنا به أمس، واختفاء طائرة مصرية تابعة للناقل الوطنى "مصر للطيران"، من طراز إيرباص "إيه 320" بشكل مفاجئ، وتضارب المعلومات طوال ساعات عديدة حول مصير الطائرة وما آلت إليه، تظل الحقيقة الأكبر والأهم أن مصر للطيران أحد أهم اللاعبين فى سوق النقل الجوى العالمية، بالنظر إلى التاريخ كونها الناقل الأول فى الشرق الأوسط والسابع فى العالم، أو إلى الواقع باعتبارها أحد أكبر الشركات التى تمتلك أسطولا جويًّا ضخمًا ويغطى مساحات ووجهات واسعة حول العالم، وأيضًا كونها واحدة من أقل شركات الطيران فى معدلات الحوادث والمشكلات الفنية، فبين الحادث الأخير وسابقه مما يمكن تعداده ضمن قائمة الكوارث الجوية أكثر من 17 سنة، منذ سقوط إحدى طائراتها على سواحل الولايات المتحدة الأمريكية نهاية أكتوبر من العام 1999، ورغم حجم الشركة وتاريخها وسمعتها، فإن الحادث الأخير ليس سهلاً ولا بسيطًا، ويفتح قوسًا واسعًا للتساؤل حول أسبابه وخلفياته وبواعثه، وهل تحتاج الشركة الكبيرة والعريقة لإعادة النظر فى سياساتها وأسطولها وخططها العملية والتشغيلية أم أن الأمر مجرد حادث عارض.
مصر للطيران.. الناقل الوطنى ذو الـ84 سنة
شركة مصر للطيران واحدة من ثمار النهضة الاقتصادية المصرية، التى شهدتها البلاد على يد أبى الاقتصاد المصرى الحديث، طلعت باشا حرب، الذى أسس ستوديو مصر وشركة مصر للصوت والضوء وبنك مصر، وأيضًا شركة مصر للطيران، ومنذ التأسيس فى العام 1932 مرت الشركة بفترات مد وجزر، وتقدم وتراجع، وكانت دائمًا ما تتجاوز محنها المرتبطة بالظروف السياسية أو الاقتصادية السائدة.
ولكن بعيدًا عن التاريخ العريق وما عانته الشركة أو مرت به خلال تاريخها الطويل، فإن ما شهدته خلال العقدين الأخرين يختلف بشكل كامل، خاصة مع انفتاح سوق النقل الجوى، وتصاعد حجمه على مستوى التصنيع وزيادة حركة السفر، إضافة إلى توفر خدمات تأجير الطائرات الحديثة والفارهة على نطاق واسع، والنقطة الأخيرة هى أكثر ما يثير الأسئلة بشأن الشركة واستراتيجياتها، خاصة مع تمسّكها بغلبة التملك المباشر للطائرات على اللجوء للإيجار.
الفخر بامتلاك أغلب الطائرات.. منذ أحمد شفيق وحتى الآن
خلال فترة تولى الفريق أحمد شفيق، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، ووزير الطيران المدنى الأسبق، لمقاليد الوزارة، أثير الحديث عن إهدار المال العام بسبب لجوء مصر للطيران لإيجار الطائرات، وهو ما سارع "شفيق" بنفيه، ودعم النفى عدد من مسؤولى شركة مصر للطيران، مؤكدين أن الشركة لا تؤجر إلا ست طائرات فقط من إجمالى أسطولها، وأنه لا دخل لوزير الطيران بالأمر، ليمثل النفى إشارة واضحة إلى توجه الحكومة، ممثلة فى وزارة الطيران وشركة مصر للطيران، بشأن الأسطول التابع للشركة، وقصديتها لأن يكون بالملكية المباشرة وتعاملها مع الأمر وكأنه سبّة أن تلجأ الشركة للإيجار، أو كأن "الفقر عيب" فى عُرف الحكومة إذا اتصل بتشغيل الناقل الوطنى وفق أنظمة التعاقدات الحديثة.
الأمر قد يكون مقبولاً ودافعًا للفخر إذا كانت مصر للطيران قادرة على امتلاك أسطول نقل جوى حديث ومتطور، دون أن يمثل الأمر عبئًا على ميزانية الشركة، رغم أن الشركات الكبرى فى المنطقة، والتى تعود ملكيتها إلى حكومات ودول غنية وتستطيع التملك المباشر، يسير وفق منطق مختلف عن هذا، ولكن ما يثير التساؤل ويرفع حدّة الدهشة والغيظ، أن الشركة تصمم على التملك المباشر رغم عدم قدرتها عليه، ورغم أن الجدوى الاقتصادية للإيجار قد تكون أكبر، ومن هذا المنطلق تورطت الشركة طوال السنة الماضية فى طرازات قديمة، وضعفت قدرتها على تطوير أسطولها وتحديثه، لعدم قدرتها على تحمل الكلفة المادية لهذا، وهو ما يؤكده تزايد تكلفة الصيانة داخل شركة مصر للطيران، واضطرار كثير من الرحلات إلى العودة من وجهاتها بعد الإقلاع، او الهبوط الاضطرارى فى مطارات مختلفة، بسبب مشكلات وأعطال فنية، وقد يدعم هذا ما أشارت إليه بعض المصادر حول أن الطائرة المنكوبة كانت فى الصيانة منذ ثلاثة أيام فقط، ربما يكون الأمر متعلقًا بالصيانة الدورية الاعتيادية، ولكن الأكيد أن طراز الطائرة ذات الـ91 مليونا ونصف المليون دولار، قديم نوعًا ما، وأن عمرها يفوق الـ13 سنة، وهو فى عالم الطيران كبير، وأن أسطول مصر للطيران قديمه أكثر من حديثه.
الفقر مش عيب.. هل "مصر للطيران" أغنى من طيران الاتحاد والخطوط السعودية
المفارقة المثيرة فى هذا الأمر، أن شركة مصر للطيران، ورغم ما تعانيه من مشكلات اقتصادية، وخاصة مع تراجع حجم الساحة، وانخفاض حجم الطلب على الوجهة المصرية، وتوقف خط مهم من خطوطها، الذى كانت تسيّر عبره عدّة رحلات أسبوعية مع روسيا، ما زالت الشركة تصر على امتلاك الحصّة الأكبر من أسطولها، ورغم أن وزير الطيران قال فى تصريحات وحوارات سابقة إن شركة مصر للطيران تسعى لتطوير وتوسيع أسطولها ليضم 130 طائرة بحلول العام 2020، وأن نصف هذه الطائرات سيكون بالإيجار، إلا أن الحقيقة أننا الآن بصدد شركة عجوز، لديها أسطول يضم 77 طائرة، تمتلك منها 71 طائرة بنسبة تفوق 92%، بينما معدل التملك لدى شركات الطيران الكبرى بالمنطقة، 14% للخطوط الجوية الأردنية، و25% للخطوط القطرية، و30% لطيران جنوب أفريقيا، و61% لطيران الاتحاد، و77% لطيران الإمارات، و61% لطيران الخليج، و61% للخطوط الجوية السعودية، وباقى النسبة توفرها هذه الشركات الكبرى بالإيجار، خاصة وأن طائرة مثل "بوينج 777" العملاقة مثلا، يبلغ سعرها مليار دولار تقريبا، بينما يتم تأجيرها بمليون دولار فقط شهريا، فهل "مصر للطيران" أغنى من الإمارات والاتحاد والخليج والخطوط الجوية السعودية؟ وهل تتوفر لديها رفاهية التملك والتطوير والتحديث والصيانة فى وقت واحد؟ أم يكون الإيجار هو الحل؟ ويكون الأسلم أن تعترف الحكومة و"مصر للطيران" أن الفقر مش عيب؟!