قبل أكثر من سبعين عاما، وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، وخروج دول الحلفاء منتصرين على ألمانيا ودول المحور، كانت الخسائر الضخمة تكلل هامات كل الأطراف، المحور والحلفاء وحتى الدول المحايدة، وحدها مصر خرجت منتصرة، أو رابحة، إذ كانت وسط حالة التراجع الاقتصادى الحادة التى تسيطر على اقتصاديات العالم بدوله وأقاليمه المختلفة، هى الدولة الوحيدة التى تحظى باستقرار اقتصادى واضح، وبديون خارجية عند الرقم صفر، وبفائض فى محفظة احتياطى النقد الأجنبى يبلغ 450 ألف جنيه استرلينى، إضافة إلى حساب دائن للمملكة المتحدة، المنتصرة فى الحرب وإحدى أكبر القوى داخل تكتل الحلفاء، تبلغ قيمته 400 مليون جنيه استرلينى، وهى الإمبراطورية التى عُرفت دائمًا بقوتها الاقتصادية وحجم تعاملاتها ومدى الوفرة المالية المتحققة لها نتيجة امتداد أذرعها لتغطى شطرًا كبيرًا من خريطة العالم، وأنها إمبراطورية لا تغيب عنها، ولا عن مستعمراتها فى أركان العالم، أشعة الشمس.
السؤال الأهم أمام هذه الصورة، هو هل يصلح المستوى الاقتصادى لقياس مدى قوة الدول وثباتها ونجاحها فى تحقيق خططها والسير بإيقاع هادئ ومستقر على خارطة العالم؟ الحقيقة أن ضمن العناصر الأساسية لإقامة واستقامة الدول، إلى جانب الشعب والإقليم الجغرافى والتجانس القومى ونظام الحكم المستقر، لا يمكننا إغفال أهمية تمتعها بنظام اقتصادى قوى ومستقر، ولكن الأرقام فى ذاتها مصمتة ولا تحمل دلالة واضحة، بمعنى أن الصورة التى توفرها الأرقام لا تصلح منطلقًا لقراءة مدى القوة والنجاح إلا عبر وضعها فى إطار قراءة كمية نسبية، أو بمعنى أدق مثلما فعلنا فى السطور السابقة، عبر مقارنة الراهن المصرى بأرقامه الإيجابية مع حالة العالم المحيط بما عانته دوله من حرب طويلة وخسائر بشرية واقتصادية فادحة وديون لا أول لها ولا آخر، أى أن حجم الاقتصاد المصرى وأرقامه، بما تحمله من مؤشرات قوة أو ضعف، تتجلى واضحة ولامعة وذات مغزى مع مقارنتها بحجم الأرقام والديون التى عاناها الاقتصاد الإنجليزى الضخم فى الوقت نفسه.
الاقتصاد المصرى.. من وفرة الدائن إلى عوز المدين
وفق المنطلق السابق يمكن للأرقام فى سياقها المقارن أن توفر مؤشرًا واضحًا حول حجم الاقتصاد المصرى قياسًا لغيره من الاقتصاديات، أو قياسًا إليه نفسه فى مراحل زمنية مختلفة، وهو فى الوقت ذاته يحمل مؤشرات مهمة حول خطط الدولة واستراتيجياتها وخريطة أولوياتها على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية، وما بين الوفرة التى شهدتها مصر قبل 70 سنة، رغم حالة الفساد السياسى والتراجع الاجتماعى والتوتر والاضطراب اللذين سيطرا عليها فى أربعينيات ومطلع خمسينيات القرن الماضى، وحالة الأزمة التى تشهدها مصر الآن وخلال السنوات الماضية، يمكن للأرقام أن توفر لنا صورة حول وجهة هذا البلد المهم ونجاحاته وإخفاقاته ومدى ما يعانيه من مشكلات راهنة وما يتهدّده من متاعب وإخفاقات مستقبلية، يحتاج إلى التعمق فى الأرقام وفك رموزها لتخطى مخاوفها واحتمالاتها القاسية.
فى أربعينيات القرن الماضى، وبالتزامن مع الحرب العالمية الثانية ثم المرحلة التالية لها، كان سعر صرف الدولار الأمريكى مقابل الجنيه المصرى 20%، أى كان الجنيه الواحد يساوى 5 دولارات، وكان الجنيه الذهب يساوى 97 قرشا مصريا، بينما كانت الديون صفر، وفائض الاحتياطى 450 ألف جنيه استرلينى، وحجم مستحقاتنا الخارجية كديون على إنجلترا حوالى 400 مليون جنيه استرلينى كما أسلفنا.
اليوم، ووفق ما أعلنته تقارير رسمية صادرة عن البنك المركزى، وتقارير أخرى نشرتها وزارة المالية عبر موقعها الإلكترونى، ووفق الراهن الذى نعاينه، فإن السعر الرسمى للدولار الأمريكى فاق 9 جنيهات، بينما فى السوق السوداء تخطى هذا الحد وقفز حاجز الـ11 جنيها، واقترب إجمالى الدين العام من 3 تريليونات جنيه، منها أكثر من 40 مليار دولار ديونا خارجية، وبمقارنة الصورتين اللتين تفصل بينهما 70 سنة، ربما تكون الصورة فادحة التشاؤم ومشيرة إلى حجم التراجع، ولكن استجلاء هذه الصورة بشكل منطقى وعقلانى يحتاج لتتبع مسيرة هذا التراجع بدقة ووضوح.
من عبد الناصر لمبارك.. مصر تدخل دائرة الديون وتتعمق فيها
حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952 وانتهاء عصر الملكية لم تكن المالية المصرية تعرف فكرة الديون، كانت ديوننا الخارجية صفرًا، ولدينا وفرة فى الاحتياطى، وما زالت مستحقاتنا لدى إنجلترا على حالها، وهى بالمناسبة ما زالت على حالها ولم يتم تسديدها، ومع تحول مصر إلى النظام الجمهورى وتصاعد طموحاتها السياسية والاجتماعية والعسكرية، ثم هزيمة يونيو 1967، بدأنا نتورط فى الديون، وتراجع سعر صرف الجنيه، حتى وصلنا إلى سبتمبر 1970، تاريخ وفاة عبد الناصر، ونحن محمّلين بديون قدرها 1.7 مليار دولار أمريكى، وفق ما أعلنه البنك الدولى فى تقرير صادر عنه عام 1990، بينما كان سعر الدولار الأمريكى 40 قرشا تقريبًا، وتراوح خلال السنوات الأخيرة من حكم عبد الناصر بين 25 و35 قرشا.
فى عصر الرئيس السادات، ونتيجة الأعباء والالتزامات العسكرية التى رتّبتها ضرورات الاستعداد للحرب، تضاعفت الديون المصرية لتصل إلى 22 مليار دولار مع نهاية عصر السادات واغتياله فى أكتوبر 1981، بينما وصل سعر الدولار إلى 85 قرشا تقريبًا.
التحول الاقتصادى الأكبر والأكثر حدة وتناقضا كان فى عصر مبارك، الفترة التى امتدت 30 سنة تقريبًا، فبينما تسلم مبارك حكم مصر وهى مدينة بـ22 مليار دولار وعملتها تتفوق على الدولار الأمريكى، سلّمها فى 2011 مدينة بـ1.172 تريليون جنيه، ديونا خارجية وداخلية، منها 36.3 مليار جولار ديونا خارجية، وفق التقرير الشامل الذى نشرته وزارة المالية عبر موقعها مؤخّرًا، وكان ضمن التحولات الكبرى ما شهدته مصر التحول الواسع للاستدانة من الداخل إلى جانب الديون الخارجية، وهو ما قفز بحجم الديون المصرية فى نهاية عصر مبارك للرقم السابق.
السنوات الثلاث التالية لقيام ثورة يناير 2011 شهدت تحولات اقتصادية عديدة، ارتفعت الديون فى فترة المجلس الأعلى للقوات المسلحة نوعا ما، على خلفية الأزمات السياسية والاقتصادية وحالة عدم الاستقرار التى شهدتها البلاد، ولكن كانت القفزة الكبرى مع تولى محمد مرسى وجماعة الإخوان الإرهابية مقاليد السلطة فى البلاد، ففى عام واحد قفز إجمالى الدين العام المصرى من 1.5 تريليون جنيه، إلى 1.887 تريليون جنيه، وفق التقرير نفسه الذى نشرته المالية، بينما قفز الدين الخارجى بواقع 9.6 مليار دولار، نتيجة لجوئه إلى الاستدانة والقروض القطرية.
التقرير الذى عرضته المالية أشار إلى أن حجم الدين العام تضاعف 5 مرات فى أقل من 10 سنوات، إذ كان 546 مليار جنيه فى العام 2007، وفى مارس 2015 بلغ إجمالى الدين العام المصرى 2.305 تريليون جنيه، منها 39.9 مليار دولار ديونا خارجية، وفق ما عرضه تقرير المالية، والذى توقع وصول حجم الدين العام إلى 3.019 تريليون جنيه فى موازنة 2017، وهو بالقياس على إجمالى الدين المصرى عام 1970، أى قبل أقل من 46 سنة، وبمراعاة سعر صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكى قديما والآن، فإن الدين العام قد تضخم وتضاعف حوالى 2000 مرة تقريبا فى أقل من نصف القرن.
أعباء خدمة الدين.. ونصيب المواطن من الدين العام
التضخم الواسع الذى شهده الدين العام لمصر أثّر بشكل كبير على كثير من جوانب وصور الحياة فى مصر، فإلى جانب التهامها لحصة كبيرة من الموازنة نتيجة تحملنا أعباء خدمة دين سنوية، عبارة عن سداد قيمة الفوائد والأقساط، تفوق 3 مليارات دولار لصالح قطر وتجمع دول "نادى باريس" فقط، فضلاً عن باقى قائمة الدائنين وأعبائهم، وهو ما يخصم من قوة الموازنة العامة وقدرتها على الوفاء بمتطلبات واحتياجات الدولة المصرية على صعيد الاستثمارات الحكومية وتوفير السلع والخدمات ومنظومة التأمين الصحى والضمان الاجتماعى والدعم التى تتمتع بها الفئات الفقيرة وغير القادرين.
المشكلة الكبيرة فى الأرقام المعلنة من جانب وزارة المالية، وتوقعاتها لحجم الدين العام فى موازنة العامة المقبل، أنها إشارة إلى تزايد أعباء وفاتورة خدمة الدين، واستمرار تصاعد الدين نفسه، وهو ما يكشف عنه عطاء وزارة المالية اليوم لأذون خزانة جديدة بقيمة 9.5 مليار جنيه لتغطية مصروفات الحكومة وعجز الموازنة، إضافة إلى استمرار مسلسل التراجع والاستدانة الخارجية نتيجة الخصم من قوة الموازنة وعجزها عن توفير احتياجاتها من مخصصات الاستثمار والمشرعات الحكومية، ومن ثمّ تعميق عجزها وزيادة الحاجة لوسائل وآليات لسدّ هذا العجز، ولا سبيل إلا عبر الاستدانة، إضافة إلى أن الرقم الذى بشّرت به المالية فى موازنة 2017، وهو 3.19 تريليون جنيه، يعنى أن نصيب الفرد الواحد من الدين العام يبلغ 33 ألفا و500 جنيه تقريبًا، وأن إجمالى الناتج القومى لمصر يفوق إجمالى ديونها بنسبة ضئيلة، أو برؤية الأرقام بصورة معاكسة، فإن إجمالى الدين العام قد بلغ 97% من الناتج القومى، ولا شك أن جزءًا كبيرًا من ضخامة هذه الأرقام يعود إلى سعر صرف الدولار وتضخم ديوننا الخارجية بشكل مفاجئ نتيجة تحرك سعر الدولار بما يفوق 3 جنيهات فى أسابيع معدودة، ولكن تظل الصورة فى أشد حالاتها تبسيطا واختزالا للأرقام وتفسيرا بالأعباء أو الزيادة السكانية أو التوترات السياسية أو سعر الصرف، صورة صعبة ومزعجة وتحتاج إلى وقفة عاجلة وجادة.
الدين العام ونصيب المواطن.. بين بيانات المالية وتقارير المركزى
صعوبة الصورة وما تفرضه من ضرورة اتخاذ موقف جاد وسريع وحاسم، تتجلى مع قراءة أرقام وتقارير وزارة المالية، المنشورة عبر موقعها الرسمى، ومقارنتها بأرقام وتقارير البنك المركزى، وما صرّح به محافظه طارق عامر فى أكثر من مناسبة، إذ قال البنك فى بيان صادر عنه مؤخّرًا، إن متوسط نصيب المواطن من الدين الخارجى المستحق على مصر، ارتفع ليسجل 491.2 دولارا أمريكيا، ما يعادل 4360 جنيهًا مصريا بنهاية ديسمبر 2015، مقابل 474.3 دولارا فى سبتمبر من العام نفسه وذلك وفق أرصدة المديونية المصرية التى بلغ تقديرها الإجمالى 48 مليار دولار، وبإضافة الدين العام الداخلى الذى يفوق حاليا التريليونين ونصف التريليون جنيه، أو الـ250 مليار دولار، فإننا أمام حصة جديدة من الديون الواقعة على عاتق كل مواطن، بما يوازى 5 أضعاف حصته من الدين الخارجى البالغة 4360 جنيها.
الأرقام والمؤشرات السابقة، وعشرات غيرها من الإضاءات الكمية والرقمية ذات الدلالة، تشير إلى أننا بصدد أزمة كبيرة على الصعيد الاقتصادى، ربما لا يمكن تجاوزها لحاكم دون آخر ولا لنظام دون آخر، ولا يمكن أيضًا المراهنة على تجاوزها فى سنة أو سنتين، أو بجهود حكومة أو حكومتين، ولكنها أزمة عمرها نصف القرن تقريبًا، بدأت بطيئة ومحدودة وسرعان ما توسعت نتيجة عدم اهتمامنا بتدشين اقتصاد مصرى قوى، يقوم على نهضة صناعية حقيقية لا على بنية استهلاكية ريعية عمادها التجارة والسمسرة والعمولات، وإذا كان لديون مصر بأرقامها أو توفر ترمومترًا كاشفًا أو مؤشرًا مهمًّا لآليات الحل، فإنها تشير إلى أن المنحنى الصاعد سيظل على حالته ما دامت بنية الاقتصاد المصرى على حالتها، أى أننا نحتاج لتغيير بنية الاقتصاد وإعادة هيكلتها بشكل جذرى حتى نتمكن من تغيير شكل المنحنى، هذه هى درجة الحرارة الحقيقة التى يعرضها ترمومتر ديون مصر، والأمر لا يحتاج إلا لطبيب ماهر وحاذق وسليم البصر، ليرى تدفق الزئبق واندفاعه على شريط القياس ومؤشر الأرقام المنقوش على جسد الترمومتر، ليقرر سريعًا طريقة التعامل مع "حمّى الديون" هذه قبل أن تفتك بجهاز المناعة الاقتصادية المتهالك.