من المفترض أنك تقرأ الآن هذا المقال فى اليوم الذى يبدأ فيه تطبيق «الخطبة المكتوبة» التى وزعتها وزارة الأوقاف على أئمة المساجد فى مصر، لكى يتلوها على مسامع المصلين. وفى الحقيقة، فإننى لم أجد قرارًا يستهدف البحث العلمى والدينى بضرر أكثر من هذا القرار، ففى ظاهر الأمر يحارب هذا القرار بعض الغلو على منابرنا، ويستهدف محاصرة الأفكار المتطرفة، لكن فى واقع الأمر يؤدى هذا القرار إلى تجهيل الأئمة، وتحويلهم مع مرور الأيام إلى آلات بث، وليس عقولًا مفكرة، ليصبح فى مقدور الواحد أن يستغنى عن هذه الشعيرة الإسلامية المهمة بأن يقرأ تلك الخطبة عى المواقع الإلكترونية، أو يسمعها فى الراديو، وعلى المدى البعيد يجعل من أئمة المساجد مجرد «حفّاظ» لا علماء، ويعلى من قيمة النقل على قيمة العقل، ويقتل روح الاجتهاد فى النص أو مع النص، لنتحول إلى أصنام جامدة لا تفكر، ولا تعقل، ولا تناقش، ولا تتجادل.
تثبت وزارة الأوقاف بهذا القرار أنها لا تريد تغذية عقول المسلمين بالطريقة الصحيحة، فلا يصح أبدًا أن نتعامل مع الدين بمبدأ الاستبعاد، ولا يصح أيضًا أن نضيف سياجًا حول عقول الناس، وأن نفرض على الأئمة كلمات بعينها، وأقاويل بعينها، وموضوعات بعينها، ليصبح هذا المسجد كذلك، ويصبح هذا الشيخ كهذا، فى تجنٍّ واضح على مبدأ تكافؤ الفرص، وطمس حقيقى للفروق الفردية بين البشر وبعضهم البعض، وهو أمر غاية فى الخطورة والعبثية فى آن واحد، لمعاداة هذا القرار السنن البشرية التى أقرها الله جل وعلا فى كتابه الحكيم، إذ يقول «وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ». نعم هناك خطورة حقيقية فى بعض المساجد، وهناك أئمة على قدر كبير أو صغير من التطرف، وفى الغالب فإن هؤلاء المتطرفين لن يلتزموا بخطبة مكتوبة أو تعليمات شفهية، ومن هنا نتأكد من أن علاج التطرف لا يتم عبر التلقين والجبر، إنما يتم عبر المناقشة والتربية والتثقيف والتشجيع على التفكير، والتحريض على إعمال العقل، ودراسة التاريخ الإسلامى لمعرفة ملابسات وضع بعض التشريعات، ومناسبة هذه التشريعات لحياتنا.. علاج التطرف يتم عبر التوسع فى دراسة العقل الإسلامى، ونزع القداسة عن بعض الشخصيات، والتأكيد على أن كل إنتاج بشرى هو بشرى فى نهاية الأمر، وأنه ليس لأحد الحق فى أن يتحدث باسم الله، أو يحتكر تأويل الحقيقة، أو يدعى أنه صاحب الرأى النهائى.. علاجه بإفشاء التسامح، ومحاربة العنف.. علاجه بالتعليم الحقيقى، وإثراء ملكات العقل الإسلامى، وتدعيمه بمبادئ البحث العلمى السليم، وإدخال آليات «المعمل» إلى الحقل الدينى، فيصبح من حق العلماء أن يبحثوا ويفكروا ويعترضوا وينتجوا.