كانت مدن الجزيرة الأندلسية دررا منتظمة المعلوم أن عقيدة الولاء والبراء فى أسسها هى الولاء لله تعالى ولرسوله وللمومنين ومحبتهم ومناصرتهم، والتبرؤ من الكافرين وبغضهم وعداوتهم، فحين تسرب الوهن لقلوب الكثير من حكام دويلات الطوائف فى الأندلس، ضعفت العقيدة الإسلامية فى النفوس والضمائر وتطويعها لخدمة القومية والعنصرية، وهو ما أدى، كما تقول مريم المير فى بحثها التاريخى الرائع، إلى ضعف عقيدة الولاء والبراء، ويعد هذا سببا من أهم أسباب السقوط وأشدها، فها هو ملك طليطلة، المأمون أراد «أن يستنجد بالفرنجة على تملك مدائن الأندلس، فكاتب طاغيتهم أن تعال فى مائة فارس والملتقى فى مكان كذا، فسار فى مائتين وأقبل الطاغية فى ستة آلاف وجعلهم كمينا له، وقال: إذا رأيتمونا قد اجتمعنا فأحيطوا بنا، فلما اجتمع الملكان أحاط بهم الجيش، فندم المأمون وحار، فقال الفرنجى: يا يحيى «وهو اسم المأمون» وحق الإنجيل كنت أظنك عاقلا، وأنت أحمق، جئت إلى وسلمتنى مهجتك بلا عهد ولا عقد، فلا نجوت منى حتى تعطينى ما أطلب، قال: فاقتصد، فسمى له حصونا وقرر عليه مالا فى كل سنة، ورجع ذليلا مخذولا، وذلك بما قدمت يداه».
وهكذا كانت البلاد تباع وتعطى رخيصة طلبا لمطامع دنيئة حتى فقد الناس الثقة فى حكامهم وقادتهم، ويتضح الأمر من خلال هذا النص: «حين استشهد حاكم سرقسطة أبوجعفر أحمد المستعين بالله سنة 503 وخلفه ابنه أبومروان عبدالملك عمادة الدولة، بايعه الناس بسرقسطة بعدما اشترطوا عليه ألا يستخدم الروم ولا يتلبس بشىء من أمرهم».
تعدد الإمارات وعداوة بعضها لبعض.. كانت مدن الجزيرة الأندلسية دررا منتظمة فى سلك واحد، وواسطة العقد الأمير أو الخليفة، ثم انفرط هذا العقد، وصدأت جواهره، فدب الخلاف وعمت العداوة بين أمراء المدن الذين أعلنوها إمارات مستقلة، ولدت ميتة قبل موتها! «ولم تزل هذه الجزيرة منتظمة لمالكها فى سلك الانقياد والوفاق، إلى أن طما بمترفيها سيل العناد والنفاق، فامتاز كل رئيس منهم بمسقط رأسه، وجعله معقلا يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه، فصار كل منهم يشن الغارة على جاره، ويحاربه فى عقر داره، إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو فى الدين يعادى، ويراوح معاقلهم بالعيث ويغادى، حتى لم يبق بأيديهم منها إلا ما هو فى ضمان هدنة مقدرة، وإتاوة فى كل عام على الكبير والصغير مقررة».
وبهذا بدأ تغليب المصالح على المبادئ، وبالتالى التحالف مع أعداء الإسلام ضد إخوان العقيدة وشركاء الحضارة والمصير.
ويعتبر التفكك السياسى الذى ساد الأندلس نتيجة انفراط عقد الخلافة الأموية إلى اثنتين وعشرين دولة «طائفة» سببا مباشرا فى السقوط، وقد حفل عصر الطوائف هذا بمظاهر سقوط كثيرة وشنيعة تولدت من التفكك السياسى، وما نجم عنه من مظاهر التنافس الرخيص والقتال الداخلى والمجون والعبث، لقد انتثر عقد الأندلس بين عناصر متصارعة وهى: «البربر» فى الجزء الجنوبى، و«الصقالبة» فى القسم الشرقى، و«العرب» فى باقى الأندلس، حتى قال الحسن بن رشيق:
مما يزهدنى فى أرض أندلس/ أســماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة فى غير موضعها/ كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد
وللحديث بقية غدا إن شاء الله.