كثيرا ما أشعر بالأسى حيال طريقة تفكير بعض النخب الثقافية فى مصر الآن، فقد امتدت الهيستريا إلى أقصى مدى، وشاع مرض الفوبيا من الإخوان المسلمين حتى تحول إلى فوبيا من الحياة ذاتها، وللأسف أيضا فإن الكثير من الإعلاميين يعملون جاهدين لخدمة هذه الجماعة الإرهابية المتطرفة وهم يحسبون أنهم يسهمون فى هدمها، ولعل هذا ما وضح جليا فى تلك الهجمة الجاهلة على دار الكتب المصرية التى بدأت حينما شرعت دار الكتب فى تنفيذ مشروع طال انتظاره لسنوات طويلة، وبدلا من أن نحتفى بإتاحة هذه الدار الأعرق والأكبر فى المنطقة لجميع الكتب التراثية إلكترونيا «مجانا» هاجمها الكثيرون، لأن من ضمن هذه الكتب كتابا لحسن البنا بعنوان «رسالة الجهاد»، وهو أمر يحتاج إلى وقفة حقيقية أمام هذه الهستيريا حتى لو كان ثمن هذه الوقفة هو الهجوم على شخصيا.
باختصار فإننى أرى أن دار الكتب لم ترتكب جرما بعرضها لإحدى كتب حسن البنا، فما لا يفهمه البعض هو أن دار الكتب ليست دار نشر وليست معنية بالاختلافات السياسية وإنما معنية فى المقام الأول بالتاريخ، لا تفرق بين ما يرتكبه المجرمون ولا ما يصنعه الصالحون، هى تجمع كل شىء عن أى شىء، كل الكتب عن كل العلوم والمعارف، جميع الإصدارات من جميع المطبوعات، والغرض الأساسى من هذا الجمع هو الحفاظ على صورة المجتمع فى مصر وتوفير المواد التاريخية والأرشيفية للباحثين الذين يتولون مهمة تحقيق هذه المواد وتفنيدها والتحقق من صحتها ودراسة السياق الاجتماعى والسياسى المصاحب لها، ولهذا فإنه من المهم بل ومن الضرورى أن تتيح دار الكتب كتابات البنا وسيد قطب وغيرهما من قادة الجماعة المتطرفة لكى يتعرف الباحثون على طريقة تفكيرهم وطبيعة أفكارهم ودراستها، ومن ثم يمكن تفنيدها الرد عليها وبيان فسادها وإفسادها، مع مقارنة ما جاء بهذه الكتب مع ما كتب ضدها من ناحية ومع تصرفات أصحابها من ناحية أخرى، وحينما ينتاب البعض تشنجا غير مدروس بسبب إتاحة كتب الإخوان على البوابة التارخية الأكبر فى مصر فإنهم بهذا الأمر يخدمون الجماعة خدمة العمر تماما كمن يسدى إلى قاتل خدمة بإخفاء «جثة القتيل» عن موقع الجريمة.
نحن لن نكون أشد على الإخوان من جمال عبد الناصر الذى سجن الأديب نجيب الكيلانى فى عام 1954 ثم منحته وزارة التربية والتعليم جائزة وهو فى المعتقل عام 1957 ثم حصل على جائزة الدولة التشجيعية واستلمها من عبد الناصر فى عام 1960 فور خروجه من السجن، ولهذا فإنى أرى أن تلك الحملة الشرسة على دار الكتب صورة فجة من صور المكارثية السياسية التى تصادر على التاريخ والمستقبل فى آن فمن دون دار الكتب ومخطوطاتها وكتبها القيمة لم نكن لنرى أيا من الكتابات المهمة التى فضحت تاريخ الإخوان، ومنها كتابات الكاتب الصحفى حلمى النمنم وزير الثقافة نفسه، وإن استمر منع كتب الإخوان بهذه الطريقة حتى عن دار الكتب، فهذا يعنى ترك المجال العام للإخوان وأكاذيبها فحسب.