اليوم نواصل كشف المسكوت عنه فى محاكم التفتيش والتى اعتذر عنها قيادات دولتى الأندلس والبرتغال، فيقول الدكتور راغب السرجانى فى بحثه الخطير عن محاكم التفتيش، إن المتهم الذى كان يمثل أمام المحكمة يخضع لاختبار أولى، وهو أن يشرب كؤوسًا من الخمر يحددها المحاكمون له، ثم يُعرض عليه لحم الخنزير ويطلب منه أن يأكله، وبذلك يتم التأكد من المتهم أنه غير متمسك بالدين الإسلامى وأوامره، ولكن هذا الامتحان لا يكون عادة إلا خطوة أولى يسيرة جدًّا إزاء ما ينتظر المتهم من رحلة طويلة جدًّا من التعذيب، إذ يعاد بعد تناوله الخمر وأكل لحم الخنزير إلى الزنزانة فى سجن سرى ودون أن يعرف التهمة الموجهة إليه.
وهو مكان من أسوأ الأمكنة، مظلم، ترتع فيه الأفاعى والجرذان والحشرات، وتنتشر فيه الأوبئة، وفى هذا المكان على المتهم أن يبقى أشهرًا طويلة دون أن يرى ضوء الشمس أو أى ضوء آخر، فإن مات، فهذا ما تعتبره محاكم التفتيش رحمة من الله وعقوبة مناسبة له، وإن عاش، فهو مازال معرضًا للمحاكمة، وما عليه إلا أن يقاوم الموت لمدة لا يعرف أحد متى تنتهى وقد يُستدعى خلالها للمحكمة لسؤاله وللتعذيب.
وعادة كان يسأل المحقق فى المرة الأولى إن كان يعرف لماذا ألقى القبض عليه وألقى فى السجن، وما التهم التى يمكن أن توجه إليه، ثم يطلب منه أن يعود إلى نفسه وأن يتأمل واقعه، وأن يعترف بجميع الخطايا التى يمليها عليه ضميره ويسأله عن أسرته وأصدقائه ومعارفه وجميع الأماكن التى عاش فيها أو كان يتردد عليها، وخلال إجابة المتهم لا يُقاطع، يُترك ليتحدث كما يشاء ويسجل عليه الكاتب كل ما يقول، ويُطلب منه أن يؤدى بعض الصلوات المسيحية ليعرف المحققون إن كان بالفعل أصبح مسيحيًّا أو مازال مسلما، ودرجة إيمانه بالمسيحية. وبعد هذه المقابلات البطيئة الروتينية، يقرأ أخيرًا المدَّعى العام على المتهم قائمة الاتهامات الموجهة إليه، وهى اتهامات تم وضعها بناء على ما استنتجته هيئة المحكمة من استنطاق المتهم، ولا تستند إلى أدلة من نوع ما، ولا يهم دفاع المتهم عن نفسه.. وفى الغد نواصل كشف المستور فى قتل وتعذيب المسلمين واليهود العرب.