لقد كان الريف المصرى صافى النوايا، تتسم مسيرته وحركته اليومية بأخلاق الريف النظيفة والنزيهة من كل شوائب المدينة، أنه المارد ذو الشوارب الطويلة، وقبعة الرأس المصنوعة من الفرو، وبساطته المتناهية إلى الحد الذى جعلته يهاجم سلاح التطرف والإرهاب، ودبابة العرى والتعرى، وصاروخ يفتت الرذيلة، حيث القناعات الراسخة التى لم تدع لمعوقات الحضارة، أن يتزحزح أو يصاب بالعفن، فليت الفلاح يبقى فلاحا وابن المدينة يبقى كذلك، كل فى حيزه وأعرافه وأخلاقه وقوانين حياته، لتكون الحصيلة النهائية استقرارا وأمنا وتقدما.
فتلك الريف الذى تربيت فيه وترعرعت على القيمة والاحترام، وسط أناس يعملون ليل نهار من أجل إسعاد أنفسهم وذويهم، الكل يعمل فى الفلك الذى قدره الإله له، الفقير يسعى جاهدا غير عابئا من فقره، والغنى يواصل مسيرته كما يراها هو، مع وجود شىء زهيد من البغض بين أهل القرية، بسبب شىء حُكى لنا، ولم نعشه، لكن لا يذكر تلك الموقف إلا عند وجود شر، أو إنسان خبيث لئيم يثيره، وهذا قليل، هكذا كنت أرى مشهد قريتى، التى كانت ترفرف على سمائها سحابة من الود والتسامح، وتعشش فى أركانها وجنباتها، زقازيق العشق والحب، وتمرح الفرحة فى أنهر الأعين فى الأفراح والأعياد، وتنكسر الهمات، وتترك المصالح عند المصائب والشدائد، وتزلزل أراضيها دكات الرجال عند الغضب فى وجه غاشم أو معتدٍ.
لكن بعد حوار مع صبى لم يتجاوز عمره الاثنى عشرة عاما، بقريتى "كفر منسابة"، خلال حديث امتد لساعتين من الوقت، ولم تتوقف دقات قلبى، ولم تهدأ مقلتى عينى من الجحوظ من هول ما سرده لى هذا الغلام، الذى لم تضايقه كلمة بلطجى، بل كان فرحا بها لأبعد الحدود، فإذا بحديثه يقع على قلبى وعقلى كالصاعقة، متسائلا: ما الذى جرى فى قريتنا هذه السنوات؟ من المسئول عن تكدير صفوها، وتعكير صفائها؟ وهل يحق لنا أن نترحم على ريف ماتت فيه المودة وضاعت فيه القيمة، وسادت فيه البلطجة والإجرام؟ أين الآباء الصفوة الذين أنجبوا هؤلاء المحششين السفلة؟ كما روى لى تلك الغلام، بكلماته التى كانت تنساب من شفاتيه انسياب الكلمات من شاعر أديب.
وبعد التحقق من كل الوقائع، فلم أجد ريفا كما عرفنى وعرفته، وجدت ريفا، تكاثرت عليه ذئاب الحضارة السوداء، ينهل بعض شبابه من روافد العولمة القميئة المقيتة، ووجدت حكومة تتعمد بإقذاف أبنائه فى جحيم الغربة وأغلالها، بعدم توظيفه وتعليمه، فيرجع من الغربة ثورا تكالبت عليه ثيران الغربة فقتلت كل فضيل فيه، فالطمع يملىء عينيه، والغرور يقود جبهته، والأنا تسبق لسانه، حيث يرجع إلى بيت تفككت أواصره، وانهدمت جوانب عظمته، ووجدت فلاح يئن أنين الضعيف من فقره، حيث المبيدات المسرطنة، والإنتاج الذهيل الحقير، يرمى محصوله على طرفى ترعته، فلا شار ولا بائع، تنهش الأمراض جسده النحيف، فلا تأمين ولا خدمات، لتصبح حياته بؤسا، ومعيشته ضنكا، ليكره على ترك عيشة الفضيلة سامحا أو صامتا لغزو الرزيلة مجتمعه، تدنسه كيفما تشاء، وهو لا يملك إلا أن يقول زماننا غير زمانهم.
فيا ليت قريتى تعود كما رأيتها، شمسها وقمرها محبة وصفاء، حيث الطبيعة الخلابة، والعادات والتقاليد الحامية لأصحابها من فضلات الحضارة ورواثها، عندما يتكلم الكبير يقف الصغير مبجلا سامعا، وفى حلول المصيبة نجد جيوشا جرارة تقضى على أى غازٍ يحاول افتراسها، فلا مكان لنميمة بين أبنائها، ولا يعرف الغدر طريقا بين جنباتها، لا نسمع فى حضرتها بذاءات ولا سقطات، وليت حكومة تنظر بعين الرحمة إلى ريف يفقد فلذات أكباده فى غربة، وتتلاطمه أمواج البحر فى ليل حالك، وتنظر بعين الاحترام لكهل أفنى عمره فى حقله، توفر له الدواء والغطاء من سهام الهٍرم والشيبة، وتنظر بعين الأمل لشباب يتدفق فى عروق دمه الطموح والوصول، ليكون قاطرة ومنبعا للرخاء، وتنظر بعين الحارس لشباب ينزلق فى براثن الفكر والتطرف والجماعات، لتحميه وتحمى مجتمعه من شروره وشرور جماعته، وتنظر بعين العدل والمساواة فى خلق بيئة نظيفة وجميلة بها كل ما يحتاجه من أمور تساعده على النهوض مثل المدن والحضر، فيا ليت قريتى تعود..!!!!